الصفحة الرئيسية
>
شجرة التصنيفات
كتاب: بدائع الصنائع في ترتيب الشرائع ***
وَأَمَّا الْكِنَايَةُ فَنَوْعَانِ نَوْعٌ هو كِنَايَةٌ بِنَفْسِهِ وَضْعًا وَنَوْعٌ هو مُلْحَقٌ بها شَرْعًا في حَقِّ النِّيَّةِ أَمَّا النَّوْعُ الْأَوَّلُ فَهُوَ كُلُّ لَفْظٍ يُسْتَعْمَلُ في الطَّلَاقِ وَيُسْتَعْمَلُ في غَيْرِهِ نَحْوُ قَوْلِهِ أَنْتِ بَائِنٌ أَنْتِ على حَرَامٌ خَلِيَّةٌ بريئة [برئية] بَتَّةٌ أَمْرُكِ بِيَدِكِ اخْتَارِي اعتدى استبرى [استبرئي] رَحِمَك أَنْتِ وَاحِدَةٌ خَلَّيْتُ سَبِيلَكِ سَرَّحْتُكِ حَبْلُكِ على غار بك فَارَقْتُكِ خَالَعْتكِ ولم يذكر الْعِوَضَ لَا سَبِيلَ لي عَلَيْكِ لَا مِلْكَ لي عَلَيْكِ لَا نِكَاحَ لي عَلَيْكِ أَنْتِ حُرَّةٌ قَوْمِي أخرجي أغربي انْطَلِقِي انْتَقِلِي تَقَنَّعِي اسْتَتِرِي تَزَوَّجِي ابْتَغِي الْأَزْوَاجَ إلحقي بِأَهْلِك وَنَحْوُ ذلك سُمِّيَ هذا النَّوْعُ من الْأَلْفَاظِ كِنَايَةً لِأَنَّ الْكِنَايَةَ في اللُّغَةِ اسْمَ لَفْظٍ اسْتَتَرَ الْمُرَادُ منه عِنْدَ السَّامِعِ وَهَذِهِ الْأَلْفَاظُ مُسْتَتِرَةُ الْمُرَادِ عِنْدَ السَّامِعِ فإن قَوْلَهُ بَائِنٌ يَحْتَمِلُ الْبَيْنُونَةَ عن النِّكَاحِ وَيَحْتَمِلُ الْبَيْنُونَةَ عن الْخَيْرِ أو الشَّرِّ وَقَوْلُهُ حَرَامٌ يَحْتَمِلُ حُرْمَةَ الِاسْتِمْتَاعِ وَيَحْتَمِلُ حُرْمَةَ الْبَيْعِ وَالْقَتْلِ وَالْأَكْلِ وَنَحْوَ ذلك وَقَوْلُهُ خَلِيَّةٌ مأخوذة [مأخوذ] من الْخُلُوِّ فَيَحْتَمِلُ الْخُلُوَّ عن الزَّوْجِ وَالنِّكَاحِ وَيَحْتَمِلُ الْخُلُوَّ عن الْخَيْرِ أو الشَّرِّ وَقَوْلُهُ بَرِيئَةٌ من الْبَرَاءَةِ فَيَحْتَمِلُ الْبَرَاءَةَ من النِّكَاحِ وَيَحْتَمِلُ الْبَرَاءَةَ من الْخَيْرِ أو الشَّرِّ وَقَوْلُهُ بَتَّةٌ من الْبَتِّ وهو الْقَطْعُ فَيَحْتَمِلُ الْقَطْعَ عن النِّكَاحِ وَيَحْتَمِلُ الْقَطْعَ عن الْخَيْرِ أو عن الشَّرِّ وَقَوْلُهُ أَمْرُكِ بِيَدِكِ يُحْتَمَلُ في الطَّلَاقِ وَيُحْتَمَلُ في أَمْرٍ آخَرَ من الْخُرُوجِ وَالِانْتِقَالِ وَغَيْرِ ذلك وَقَوْلُهُ اخْتَارِي يَحْتَمِلُ اخْتِيَارَ الطَّلَاقِ وَيَحْتَمِلُ اخْتِيَارَ الْبَقَاءِ على النِّكَاحِ. وَقَوْلُهُ اعتدى أَمْرٌ بِالِاعْتِدَادِ وَأَنَّهُ يَحْتَمِلُ الِاعْتِدَادَ الذي هو من الْعِدَّةِ وَيَحْتَمِلُ الِاعْتِدَادَ الذي هو من الْعَدَدِ أَيْ اعْتَدِّي نِعْمَتِي التي أَنْعَمْتُ عَلَيْكِ وَقَوْلُهُ استبري [استبرئي] رَحِمَك أَمْرٌ بِتَعْرِيفِ بَرَاءَةِ الرَّحِمِ وهو طَهَارَتُهَا عن الْمَاءِ وَأَنَّهُ كِنَايَةٌ عن الِاعْتِدَادِ الذي هو من الْعِدَّةِ وَيَحْتَمِلُ استبري [استبرئي] رَحِمَكِ لَأُطَلِّقكِ وَقَوْلُهُ أَنْتِ وَاحِدَةٌ يُحْتَمَلُ أَنْ تَكُونَ الْوَاحِدَةُ صِفَةَ الطَّلْقَةِ أَيْ طَالِقٌ وَاحِدَةً أَيْ طَلْقَةً وَاحِدَةً وَيَحْتَمِلُ التَّوْحِيدَ في الشَّرَفِ أَيْ أَنْتِ وَاحِدَةٌ في الشَّرَفِ وَقَوْلُهُ خَلَّيْتُ سَبِيلَكِ يَحْتَمِلُ سَبِيلَ النِّكَاحِ وَيَحْتَمِلُ سَبِيلَ الْخُرُوجِ من الْبَيْتِ لِزِيَارَةِ الْأَبَوَيْنِ أو لِأَمْرٍ آخَرَ وَقَوْلُهُ سَرَّحْتُك يَعْنِي خَلَّيْتُكِ يُقَالُ سَرَّحْتُ إبِلِي وَخَلَّيْتهَا بِمَعْنَى وَاحِدٍ وقوله [وقولك] حَبْلُكِ على غَارِبِك اسْتِعَارَةٌ عن التَّخْلِيَةِ لِأَنَّ الْجَمَلَ إذَا ألقى حَبْلُهُ على غَارِبِهِ فَقَدْ خلى سَبِيلُهُ يَذْهَبُ حَيْثُ شَاءَ وَقَوْلُهُ فَارَقْتُكِ يَحْتَمِلُ الْمُفَارَقَةَ عن النِّكَاحِ وَيَحْتَمِلُ الْمُفَارِقَةَ عن الْمَكَانِ وَالْمَضْجَعِ وَعَنْ الصَّدَاقَةِ وَقَوْلُهُ خَالَعْتكِ ولم يذكر الْعِوَضَ يَحْتَمِلُ الْخُلْعَ عن نَفْسِهِ بِالطَّلَاقِ وَيَحْتَمِلُ الْخُلْعَ عن نَفْسِهِ بِالْهَجْرِ عن الْفِرَاشِ وَنَحْوَ ذلك وَقَوْلُهُ لَا سَبِيلَ لي عَلَيْكِ يَحْتَمِلُ سَبِيلَ النِّكَاحِ وَيَحْتَمِلُ سَبِيلَ الْبَيْعِ وَالْقَتْلِ وَنَحْوَ ذلك وَكَذَا قَوْلُهُ لَا مِلْكَ لي عَلَيْكَ يَحْتَمِلُ مِلْكَ النِّكَاحِ وَيَحْتَمِلُ مِلْكَ الْبَيْعِ وَنَحْوَ ذلك. وَقَوْلُهُ لَا نِكَاحَ لي عَلَيْك لِأَنِّي قد طَلَّقْتُكِ وَيَحْتَمِلُ لَا نِكَاحَ لي عَلَيْكِ أَيْ لَا أَتَزَوَّجُكِ إنْ طَلَّقْتُكِ وَيَحْتَمِلُ لَا نِكَاحَ لي عَلَيْك أَيْ لَا أَطَؤُكِ لِأَنَّ النِّكَاحَ يُذْكَرُ بِمَعْنَى الْوَطْءِ وَقَوْلُهُ أَنْتِ حَرَامٌ يَحْتَمِلُ الْخُلُوصَ عن مِلْكِ النِّكَاحِ وَيَحْتَمِلُ الْخُلُوصَ عن مِلْكِ الْيَمِينِ وَنَحْوَ ذلك وَقَوْلُهُ قُومِي وَاخْرُجِي وَاذْهَبِي يَحْتَمِلُ أَيْ افْعَلِي ذلك لِأَنَّكَ قد طَلُقْتِ وَالْمَرْأَةُ إذَا طَلُقَتْ من زَوْجِهَا تَقُومُ وَتَخْرُجُ من بَيْتِ زَوْجِهَا وَتَذْهَبُ حَيْثُ تَشَاءُ وَيَحْتَمِلُ التَّقَيُّدَ عن نَفْسِهِ مع بَقَاءِ النِّكَاحِ وَقَوْلُهُ اُغْرُبِي عِبَارَةٌ عن الْبُعْدِ أَيْ تَبَاعَدِي فَيَحْتَمِلُ الْبُعْدَ من النِّكَاحِ وَيَحْتَمِلُ الْبُعْدَ من الْفِرَاشِ وَغَيْرَ ذلك وَقَوْلُهُ انْطَلِقِي وَانْتَقِلِي يَحْتَمِلُ الطَّلَاقَ لِأَنَّهَا تَنْطَلِقُ وَتَنْتَقِلُ عن بَيْتِ زَوْجِهَا إذَا طَلُقَتْ وَيَحْتَمِلُ الِانْطِلَاقَ وَالِانْتِقَالَ إلَى بَيْتِ أَبَوَيْهَا لِلزِّيَارَةِ وَنَحْوَ ذلك. وَقَوْلُهُ تَقَنَّعِي وَاسْتَتِرِي أَمْرٌ بِالتَّقَنُّعِ وَالِاسْتِتَارِ فَيَحْتَمِلُ الطَّلَاقَ لِأَنَّهَا إذَا طَلُقَتْ يَلْزَمُهَا سَتْرُ رَأْسِهَا بِالْقِنَاعِ وَسَتْرُ أَعْضَائِهَا بِالثَّوْبِ عن زَوْجِهَا وَيَحْتَمِلُ تَقَنَّعِي وَاسْتَتِرِي أَيْ كُونِي مُتَقَنِّعَةً وَمَسْتُورَةً لِئَلَّا يَقَعَ بَصَرُ أَجْنَبِيٍّ عَلَيْكِ وَقَوْلُهُ تَزَوَّجِي يَحْتَمِلُ الطَّلَاقَ إذْ لَا يَحِلُّ لها التَّزَوُّجُ بِزَوْجٍ آخَرَ إلَّا بَعْدَ الطَّلَاقِ وَيَحْتَمِلُ تَزَوَّجِي أن طَلَّقْتُكِ وَكَذَا قَوْلُهُ ابْتَغِي الْأَزْوَاجَ وَقَوْلُهُ إلحقي بِأَهْلِك يَحْتَمِلُ الطَّلَاقَ لِأَنَّ الْمَرْأَةَ تَلْحَقُ بِأَهْلِهَا إذَا صَارَتْ مُطَلَّقَةً وَيَحْتَمِلُ الطَّرْدَ وَالْإِبْعَادَ عن نَفْسِهِ مع بَقَاءِ النِّكَاحِ وإذا احْتَمَلَتْ هذه الْأَلْفَاظُ الطَّلَاقَ وَغَيْرَ الطَّلَاقِ فَقَدْ اسْتَتَرَ الْمُرَادُ منها عِنْدَ السَّامِعِ فَافْتَقَرَتْ إلَى النِّيَّةِ لِتَعْيِينِ الْمُرَادِ وَلَا خِلَافَ في هذه الْجُمْلَةِ إلَّا في ثَلَاثَةِ أَلْفَاظٍ وَهِيَ قَوْلُهُ سَرَّحْتُكِ وَفَارَقْتُكِ وَأَنْتِ وَاحِدَةٌ فقال أَصْحَابُنَا قَوْلُهُ سَرَّحْتُكِ وَفَارَقْتُكِ من الْكِنَايَاتِ لَا يَقَعُ الطَّلَاقُ بِهِمَا إلَّا بِقَرِينَةِ النِّيَّةِ كَسَائِرِ الْكِنَايَاتِ وقال الشَّافِعِيُّ هُمَا صَرِيحَانِ لَا يَفْتَقِرَانِ إلَى النِّيَّةِ كَسَائِرِ الْأَلْفَاظِ الصَّرِيحَةِ وَقَوْلُهُ أَنْتِ وَاحِدَةٌ من الْكِنَايَاتِ عِنْدَنَا وَعِنْدَهُ هو ليس من أَلْفَاظِ الطَّلَاقِ حتى لَا يَقَعَ الطَّلَاقُ بِهِ وَإِنْ نَوَى. أَمَّا الْمَسْأَلَةُ الْأُولَى فَاحْتَجَّ الشَّافِعِيُّ بِقَوْلِهِ سُبْحَانَهُ وَتَعَالَى: {فَإِمْسَاكٌ بِمَعْرُوفٍ أو تَسْرِيحٌ بِإِحْسَانٍ}وَالتَّسْرِيحُ هو التَّطْلِيقُ وقَوْله تَعَالَى: {فَأَمْسِكُوهُنَّ بِمَعْرُوفٍ أو فَارِقُوهُنَّ بِمَعْرُوفٍ}وَالْمُفَارَقَةُ هِيَ التَّطْلِيقُ فَقَدْ سَمَّى اللَّهُ عز وجل الطَّلَاقَ بِثَلَاثَةِ أَسْمَاءٍ الطَّلَاقِ وَالسَّرَاحِ وَالْفِرَاقِ وَلَوْ قال لها طَلَّقْتُكِ كان صَرِيحًا فَكَذَا إذَا قال سَرَّحْتُكِ أو فَارَقْتُكِ وَلَنَا أَنَّ صَرِيحَ الطَّلَاقِ هو اللَّفْظُ الذي لَا يُسْتَعْمَلُ إلَّا في الطَّلَاقِ عن قَيْدِ النِّكَاحِ لِمَا ذَكَرْنَا أَنَّ الصَّرِيحَ في اللُّغَةِ اسْمٌ لِمَا هو ظَاهِرُ الْمُرَادِ عِنْدَ السَّامِعِ وما كان مُسْتَعْمَلًا فيه وفي غَيْرِهِ لَا يَكُونُ ظَاهِرَ الْمُرَادِ بَلْ يَكُونُ مُسْتَتِرَ الْمُرَادِ وَلَفْظُ السَّرَاحِ وَالْفِرَاقِ يُسْتَعْمَلُ في غَيْرِ قَيْدِ النِّكَاحِ يُقَالُ سَرَّحْتُ إبِلِي وَفَارَقْتُ صَدِيقِي فَكَانَ كِنَايَةً لَا صَرِيحًا فَيَفْتَقِرُ إلَى النِّيَّةِ وَلَا حُجَّةَ له في الْآيَتَيْنِ لِأَنَّا نَقُولُ بِمُوجَبِهِمَا أن السَّرَاحَ وَالْفِرَاقَ طَلَاقٌ لَكِنْ بِطَرِيقِ الْكِنَايَةِ لَا صَرِيحًا لِانْعِدَامِ مَعْنَى الصَّرِيحِ على ما بَيَّنَّا وَأَمَّا الْمَسْأَلَةُ الثَّانِيَةُ فَوَجْهُ قَوْلِهِ أَنَّ قَوْلَهُ أَنْتِ وَاحِدَةٌ صِفَةُ الْمَرْأَةِ فَلَا يُحْتَمَلُ الطَّلَاقُ كَقَوْلِهِ أَنْتِ قَائِمَةٌ وَقَاعِدَةٌ وَنَحْوِ ذلك وَلَنَا أَنَّهُ لَمَّا نَوَى الطَّلَاقَ فَقَدْ جَعَلَ الْوَاحِدَةَ نَعْتًا لِمَصْدَرٍ مَحْذُوفٍ أَيْ طَلْقَةً وَاحِدَةً وَهَذَا شَائِعٌ في اللُّغَةِ يُقَالُ أَعْطَيْته جَزِيلًا وَضَرَبْتُهُ وَجِيعًا أَيْ عَطَاءً جَزِيلًا وَضَرْبًا وَجِيعًا وَلِهَذَا يَقَعُ الرَّجْعِيُّ عِنْدَنَا دُونَ الْبَائِنِ. وَاخْتَلَفَ مَشَايِخُنَا في مَحَلِّ الْخِلَافِ قال بَعْضُهُمْ الْخِلَافُ فِيمَا إذَا قال وَاحِدَةً بِالْوَقْفِ ولم يُعْرِبْ فَأَمَّا إذَا أَعْرَبَ الْوَاحِدَةَ فَلَا خِلَافَ فيها لِأَنَّهُ إنْ رَفَعَهَا لَا يَقَعُ الطَّلَاقُ بِالْإِجْمَاعِ لِأَنَّهَا حِينَئِذٍ تَكُونُ صِفَةَ الشَّخْصِ وَإِنْ نَصَبَهَا يَقَعُ الطَّلَاقُ بِالْإِجْمَاعِ لِأَنَّهَا حِينَئِذٍ تَكُونُ نَعْتًا لِمَصْدَرٍ مَحْذُوفٍ على ما بَيَّنَّا فَكَانَ مَوْضِعُ الْخِلَافِ ما إذَا وَقَفَهَا ولم يُعْرِبْهَا وَيُحْتَمَلُ أَنْ يُقَالَ إنَّ مَوْضِعَ الرَّفْعِ مَحَلُّ الِاخْتِلَافِ أَيْضًا لِأَنَّ مَعْنَى قَوْلِهِ أَنْتِ وَاحِدَةٌ أَيْ أَنْتِ مُنْفَرِدَةٌ عن النِّكَاحِ وقال أَكْثَرُ الْمَشَايِخِ إنَّ الْخِلَافَ في الْكُلِّ ثَابِتٌ لِأَنَّ الْعَوَامَّ لَا يَهْتَدُونَ إلَى هذا وَلَا يُمَيِّزُونَ بين إعْرَابٍ وَإِعْرَابٍ وَلَا خِلَافَ أَنَّهُ لَا يَقَعُ الطَّلَاقُ بِشَيْءٍ من أَلْفَاظِ الْكِنَايَةِ إلَّا بِالنِّيَّةِ فَإِنْ كان قد نَوَى الطَّلَاقَ يَقَعُ فِيمَا بَيْنَهُ وَبَيْنَ اللَّهِ تَعَالَى وَإِنْ كان لم يَنْوِ لَا يَقَعُ فِيمَا بَيْنَهُ وَبَيْنَ اللَّهِ تَعَالَى وَإِنْ ذَكَرَ شيئا من ذلك ثُمَّ قال ما أَرَدْتُ بِهِ الطَّلَاقَ يُدَيَّنُ فِيمَا بَيْنَهُ وَبَيْنَ اللَّهِ تَعَالَى لِأَنَّ اللَّهَ تَعَالَى يَعْلَمُ سِرَّهُ وَنَجَوَاهُ وَهَلْ يُدَيَّنُ في الْقَضَاءِ فَالْحَالُ لَا يَخْلُو أما إنْ كانت حَالَةَ الرِّضَا وَابْتَدَأَ الزَّوْجُ بِالطَّلَاقِ وأما إذَا كانت حَالَةَ مُذَاكَرَةِ الطَّلَاقِ وَسُؤَالِهِ وأما إن كانت حَالَةَ الْغَضَبِ وَالْخُصُومَةِ. فَإِنْ كانت حَالَةَ الرِّضَا وَابْتَدَأَ الزَّوْجُ بِالطَّلَاقِ يُدَيَّنُ في الْقَضَاءِ في جَمِيعِ الْأَلْفَاظِ لِمَا ذَكَرْنَا أَنَّ كُلَّ وَاحِدٍ من الْأَلْفَاظِ يَحْتَمِلُ الطَّلَاقَ وَغَيْرَهُ وَالْحَالُ لَا يَدُلُّ على أَحَدِهِمَا فيسئل [فيسأل] عن نِيَّتِهِ وَيُصَدَّقُ في ذلك قَضَاءً وَإِنْ كانت حَالَ مُذَاكَرَةِ الطَّلَاقِ وَسُؤَالِهِ أو حَالَةَ الْغَضَبِ وَالْخُصُومَةِ فَقَدْ قالوا إنَّ الْكِنَايَاتِ أَقْسَامٌ ثَلَاثَةٌ في قِسْمٍ منها لَا يُدَيَّنُ في الْحَالَيْنِ جميعا لِأَنَّهُ ما أَرَادَ بِهِ الطَّلَاقَ لَا في حَالَةِ مُذَاكَرَةِ الطَّلَاقِ وَسُؤَالِهِ وَلَا في حَالَةِ الْغَضَبِ وَالْخُصُومَةِ وفي قِسْمٍ منها يُدَيَّنُ في حَالِ الْخُصُومَةِ وَالْغَضَبِ وَلَا يُدَيَّنُ في حَالِ ذِكْرِ الطَّلَاقِ وَسُؤَالِهِ وفي قِسْمٍ منها يُدَيَّنُ في الْحَالَيْنِ جميعا أَمَّا الْقِسْمُ الْأَوَّلُ فَخَمْسَةُ أَلْفَاظٍ أَمْرُكِ بِيَدِكِ اخْتَارِي اعْتَدِّي استبري [استبرئي] رَحِمَك أَنْتِ وَاحِدَةٌ لِأَنَّ هذه الْأَلْفَاظَ تَحْتَمِلُ الطَّلَاقَ وَغَيْرَهُ وَالْحَالُ يَدُلُّ على إرَادَةِ الطَّلَاقِ لِأَنَّ حَالَ الْغَضَبِ وَالْخُصُومَةِ إنْ كانت تَصْلُحُ لِلشَّتْمِ وَالتَّبْعِيدِ كما تَصْلُحُ لِلطَّلَاقِ فَحَالُ مُذَاكَرَةِ الطَّلَاقِ تَصْلُحُ لِلتَّبْعِيدِ وَالطَّلَاقِ لَكِنْ هذه الْأَلْفَاظُ لَا تَصْلُحُ لِلشَّتْمِ وَلَا لِلتَّبْعِيدِ فَزَالَ احْتِمَالُ إرَادَةِ الشَّتْمِ وَالتَّبْعِيدِ فَتَعَيَّنَتْ الْحَالَةُ دَلَالَةً على إرَادَةِ الطَّلَاقِ فَتَرَجَّحَ جَانِبُ الطَّلَاقِ بِدَلَالَةِ الْحَالِ فَثَبَتَتْ إرَادَةُ الطَّلَاقِ في كَلَامِهِ ظَاهِرًا فَلَا يُصَدَّقُ في الصَّرْفِ عن الظَّاهِرِ كما في صَرِيحِ الطَّلَاقِ إذَا قال لِامْرَأَتِهِ أَنْتِ طَالِقٌ ثُمَّ قال أَرَدْتُ بِهِ الطَّلَاقَ عن الْوَثَاقِ لَا يُصَدَّقُ في الْقَضَاءِ لِمَا قُلْنَا كَذَا هذا. وَأَمَّا الْقِسْمُ الثَّانِي فَخَمْسَةُ أَلْفَاظٍ أَيْضًا خَلِيَّةٌ بَرِيئَةٌ بَتَّةٌ بَائِنٌ حَرَامٌ لِأَنَّ هذه الْأَلْفَاظَ كما تَصْلُحُ لِلطَّلَاقِ تَصْلُحُ لِلشَّتْمِ فإن الرَّجُلَ يقول لِامْرَأَتِهِ عِنْدَ إرَادَةِ الشَّتْمِ أَنْتِ خَلِيَّةٌ من الْخَيْرِ بَرِيئَةٌ من الْإِسْلَامِ بَائِنٌ من الدِّينِ بَتَّةٌ من الْمُرُوءَةِ حَرَامٌ أَيْ مُسْتَخْبَثٌ أو حَرَامٌ الِاجْتِمَاعُ وَالْعِشْرَةُ مَعَكِ وَحَالُ الْغَضَبِ وَالْخُصُومَةِ يَصْلُحُ لِلشَّتْمِ وَيَصْلُحُ لِلطَّلَاقِ فَبَقِيَ اللَّفْظُ في نَفْسِهِ مُحْتَمِلًا لِلطَّلَاقِ وَغَيْرِهِ فإذا عنى بِهِ غَيْرَهُ فَقَدْ نَوَى ما يَحْتَمِلُهُ كَلَامُهُ وَالظَّاهِرُ لَا يُكَذِّبُهُ فَيُصَدَّقَ في الْقَضَاءِ وَلَا يُصَدَّقُ في حَالِ ذِكْرِ الطَّلَاقِ لِأَنَّ الْحَالَ لَا يَصْلُحُ إلَّا لِلطَّلَاقِ لِأَنَّ هذه الْأَلْفَاظَ لَا تَصْلُحُ لِلتَّبْعِيدِ وَالْحَالُ لَا يَصْلُحُ لِلشَّتْمِ فَيَدُلُّ على إرَادَةِ الطَّلَاقِ لَا التَّبْعِيدِ وَلَا الشَّتْمِ فَتَرَجَّحَتْ جَنْبَةُ الطَّلَاقِ بِدَلَالَةِ الْحَالِ وَرُوِيَ عن أبي يُوسُفَ أَنَّهُ زَادَ على هذه الْأَلْفَاظِ الْخَمْسَةِ خَمْسَةً أُخْرَى لَا سَبِيلَ لي عَلَيْكِ فَارَقْتُكِ خَلَّيْتُ سَبِيلَكِ لَا مِلْكَ لي عَلَيْكِ بِنْتِ مِنِّي لِأَنَّ هذه الْأَلْفَاظَ تَحْتَمِلُ الشَّتْمَ كما تَحْتَمِلُ الطَّلَاقَ فيقول الزَّوْجُ لَا سَبِيلَ لي عَلَيْكِ لِشَرِّكِ وَفَارَقْتُكِ في الْمَكَانِ لِكَرَاهَةِ اجْتِمَاعِي مَعَكِ وَخَلَّيْتُ سَبِيلَكِ وما أَنْتِ عليه وَلَا مِلْكَ لي عَلَيْك لِأَنَّكِ أَقَلُّ من أَنْ أَتَمَلَّكَكِ وَبِنْتِ مني لِأَنَّك بَائِنٌ من الدِّينِ أو الْخَيْرِ وَحَالُ الْغَضَبِ يَصْلُحُ لَهُمَا وَحَالُ ذِكْرِ الطَّلَاقِ لَا يَصْلُحُ إلَّا لِلطَّلَاقِ لِمَا ذَكَرْنَا فَالْتَحَقَتْ بِالْخَمْسَةِ الْمُتَقَدِّمَةِ وَأَمَّا الْقِسْمُ الثَّالِثُ فَبَقِيَّةُ الْأَلْفَاظِ التي ذَكَرْنَاهَا لِأَنَّ تِلْكَ الْأَلْفَاظَ لَا تَصْلُحُ لِلشَّتْمِ وَتَصْلُحُ لِلتَّبْعِيدِ وَالطَّلَاقِ لِأَنَّ الْإِنْسَانَ قد يُبْعِدُ الزَّوْجَةَ عن نَفْسِهِ حَالَ الْغَضَبِ من غَيْرِ طَلَاقٍ وَكَذَا حَالَ سُؤَالِ الطَّلَاقِ فَالْحَالُ لَا يَدُلُّ على إرَادَةِ أَحَدِهِمَا فإذا قال ما أَرَدْتُ بِهِ الطَّلَاقَ فَقَدْ نَوَى ما يَحْتَمِلُهُ لَفْظُهُ وَالظَّاهِرُ لَا يُخَالِفُهُ فَيُصَدَّقُ في الْقَضَاءِ. وَكَذَلِكَ لو قال وَهَبْتُكِ لِأَهْلِكِ قَبِلُوهَا أو لم يَقْبَلُوهَا لِأَنَّهَا هُنَا تَحْتَمِلُ الطَّلَاقَ لِأَنَّ الْمَرْأَةَ بَعْدَ الطَّلَاقِ تُرَدُّ إلَى أَهْلِهَا ويحتمل [وتحتمل] التَّبْعِيدَ عن نَفْسِهِ وَالنَّقْلَ إلَى أَهْلِهَا مع بَقَاءِ النِّكَاحِ وَالْحَالُ لَا يَدُلُّ على إرَادَةِ أَحَدِهِمَا فَبَقِيَ مُحْتَمَلًا وَسَوَاءٌ قَبِلَهَا أَهْلُهَا أو لم يَقْبَلُوهَا لِأَنَّ كَوْنَ التَّصَرُّفِ هِبَةً في الشَّرْعِ لَا يَقِفُ على قَبُولِ الْمَوْهُوبِ له وَإِنَّمَا الْحَاجَةُ إلَى الْقَبُولِ لِثُبُوتِ الْحُكْمِ فَكَانَ الْقَبُولُ شَرْطَ الْحُكْمِ وهو الْمِلْكُ وَأَهْلُهَا لَا يَمْلِكُونَ طَلَاقَهَا فَلَا حَاجَةَ إلَى الْقَبُولِ وَكَذَا إذَا قال وَهَبْتُكِ لِأَبِيكِ أو لِأُمِّكِ أو لِلْأَزْوَاجِ لِأَنَّ الْعَادَةَ أَنَّ الْمَرْأَةَ بَعْدَ الطَّلَاقِ تُرَدُّ إلَى أَبِيهَا وَأُمِّهَا وَتُسَلَّمُ إلَيْهِمَا وَيَمْلِكُهَا الْأَزْوَاجُ بَعْدَ الطَّلَاقِ فَإِنْ قال وَهَبْتُكِ لِأَخِيكِ أو لِأُخْتِكِ أو لِخَالَتِكِ أو لِعَمَّتِكِ أو لِفُلَانٍ الْأَجْنَبِيِّ لم يَكُنْ طَلَاقًا لِأَنَّ الْمَرْأَةَ لَا تُرَدُّ بَعْدَ الطَّلَاقِ على هَؤُلَاءِ عَادَةً وَلَوْ قال لِامْرَأَتِهِ لَسْت لي بِامْرَأَةٍ وَلَوْ قال لها ما أنا بِزَوْجِكِ أو سُئِلَ فَقِيلَ له هل لَك امْرَأَةٌ فقال لَا فَإِنْ قال أَرَدْتُ الْكَذِبَ يُصَدَّقُ في الرِّضَا وَالْغَضَبِ جميعا وَلَا يَقَعُ الطَّلَاقُ. وَإِنْ قال نَوَيْتُ الطَّلَاقَ يَقَعُ الطَّلَاقُ على قَوْلِ أبي حَنِيفَةَ وقال أبو يُوسُفَ وَمُحَمَّدٌ لَا يَقَعُ الطَّلَاقُ وَإِنْ نَوَى وَلَوْ قال لم أَتَزَوَّجْك وَنَوَى الطَّلَاقَ لَا يَقَعُ الطَّلَاقُ بِالْإِجْمَاعِ وَكَذَا إذَا قال وَاَللَّهِ ما أَنْتِ لي بِامْرَأَةٍ أو قال عَلَيَّ حُجَّةٌ ما أَنْتِ لي بِامْرَأَةٍ أَنَّهُ لَا يَقَعُ الطَّلَاقُ وَإِنْ نَوَى بِالِاتِّفَاقِ وَجْهُ قَوْلِهِمَا أَنَّ قَوْلَهُ لَسْتِ لي بِامْرَأَةٍ أو لَا امرأة [مرأة] لي أو ما أنا بِزَوْجِك كَذِبٌ لِأَنَّهُ إخْبَارٌ عن انْتِفَاءِ الزَّوْجِيَّةِ مع قِيَامِهَا فَيَكُونُ كَذِبًا فَلَا يَقَعُ بِهِ الطَّلَاقُ كما إذَا قال لم أَتَزَوَّجْكِ أو قال وَاَللَّهِ ما أَنْتِ لي بِامْرَأَةٍ وَلِأَبِي حَنِيفَةَ أَنَّ هذه الْأَلْفَاظَ تَحْتَمِلُ الطَّلَاقَ فإنه يقول لَسْتِ لي بِامْرَأَةٍ لِأَنِّي قد طَلَّقْتُكِ فَكَانَ مُحْتَمِلًا لِلطَّلَاقِ وَكُلُّ لَفْظٍ يَحْتَمِلُ الطَّلَاقَ إذَا نَوَى بِهِ الطَّلَاقَ كان طَلَاقًا كَقَوْلِهِ أَنْتِ بَائِنٌ وَنَحْوِ ذلك بِخِلَافِ لم أَتَزَوَّجْكِ لِأَنَّهُ لَا يُحْتَمَلُ الطَّلَاقُ لِأَنَّهُ نفى فِعْلِ التَّزَوُّجِ أَصْلًا وَرَأْسًا وَأَنَّهُ لَا يَحْتَمِلُ الطَّلَاقَ فَلَا يَقَعُ بِهِ الطَّلَاقُ وَبِخِلَافِ قَوْلِهِ وَاَللَّهِ ما أَنْتِ لي بِامْرَأَةٍ لِأَنَّ الْيَمِينَ على النَّفْيِ تَتَنَاوَلُ الْمَاضِيَ وهو كَاذِبٌ في ذلك فَلَا يَقَعُ بِهِ شَيْءٌ. وَلَوْ قال لَا حَاجَةَ لي فِيكِ لَا يَقَعُ الطَّلَاقُ وَإِنْ نَوَى لِأَنَّ عَدَمَ الْحَاجَةِ لَا يَدُلُّ على عَدَمِ الزَّوْجِيَّةِ فإن الْإِنْسَانِ قد يَتَزَوَّجُ بِمَنْ لَا حَاجَةَ له إلَى تَزَوُّجِهَا فلم يَكُنْ ذلك دَلِيلًا على انْتِفَاءِ النِّكَاحِ فلم يَكُنْ مُحْتَمِلًا لِلطَّلَاقِ وقال مُحَمَّدٌ فِيمَنْ قال لِامْرَأَتِهِ أَفْلِحِي يُرِيدُ بِهِ الطَّلَاقَ أنه يَقَعُ بِهِ للطلاق [الطلاق] لِأَنَّ قَوْلَهُ إفلحي بِمَعْنَى اذْهَبِي فإن الْعَرَبَ تَقُولُ لِلرَّجُلِ افلح بِخَيْرٍ أَيْ اذْهَبْ بِخَيْرٍ وَلَوْ قال لها اذْهَبِي يُرِيدُ بِهِ الطَّلَاقَ كان طَلَاقًا كَذَا هذا وَيَحْتَمِلُ قَوْلُهُ افلحي أَيْ إظفري بِمُرَادِكِ يُقَالُ أَفْلَحَ الرَّجُلُ إذَا ظَفِرَ بِمُرَادِهِ وقد يَكُونُ مَرَادُهَا الطَّلَاقَ فَكَانَ هذا الْقَوْلُ مُحْتَمِلًا لِلطَّلَاقِ فإذا نَوَى بِهِ الطَّلَاقَ صَحَّتْ نِيَّتُهُ وَلَوْ قال فَسَخْتُ النِّكَاحَ بَيْنِي وَبَيْنَكِ وَنَوَى الطَّلَاقَ يَقَعُ الطَّلَاقُ لِأَنَّ فَسْخَ النِّكَاحِ نَقْضُهُ فَكَانَ في مَعْنَى الْإِبَانَةِ وَلَوْ قال وَهَبْتُ لَك طَلَاقًا وقال أَرَدْتُ بِهِ أَنْ يَكُونَ الطَّلَاقُ في يَدِك لَا يُصَدَّقُ في الْقَضَاءِ وَيَقَعُ الطَّلَاقُ لِأَنَّ الْهِبَةَ تَقْتَضِي زَوَالَ الْمِلْكِ وَهِبَةُ الطَّلَاقِ منها تَقْتَضِي زَوَالَ مِلْكِهِ عن الطَّلَاقِ وَذَلِكَ بِوُقُوعِ الطَّلَاقِ وَجَعْلُ الطَّلَاقِ في يَدِهَا تَمْلِيكُ الطَّلَاقِ إيَّاهَا فَلَا يَحْتَمِلُهُ اللَّفْظُ الْمَوْضُوعُ لِلْإِزَالَةِ. وَرُوِيَ عن أبي حَنِيفَةَ رِوَايَةٌ أُخْرَى أَنَّهُ لَا يَقَعُ بِهِ شَيْءٌ لِأَنَّ الْهِبَةَ تَمْلِيكٌ وَتَمْلِيكُ الطَّلَاقِ إيَّاهَا هو أَنْ يُجْعَلَ إلَيْهَا إيقَاعُهُ وَيَحْتَمِلُ قَوْلُهُ وَهَبْتُ لَك طَلَاقَكِ أَيْ أَعْرَضْتُ عن إيقَاعِهِ فَلَا يَقَعُ بِهِ شَيْءٌ وَلَوْ أَرَادَ أَنْ يُطَلِّقَهَا فقالت له هَبْ لي طَلَاقِي تُرِيدُ أَعْرِضْ عنه فقال قد وَهَبْتُ لَك طَلَاقَك يُصَدَّقُ في الْقَضَاءِ لِأَنَّ الظَّاهِرَ أَنَّهُ أَرَادَ بِهِ تَرْكَ الْإِيقَاعِ لِأَنَّ السُّؤَالَ وَقَعَ بِهِ فَيَنْصَرِفُ الْجَوَابُ إلَيْهِ وَلَوْ قال تَرَكْتُ طَلَاقَكِ أو خَلَّيْتُ سَبِيلَ طَلَاقِكِ وهو يُرِيدُ الطَّلَاقَ وَقَعَ لِأَنَّ تَرْكَ الطَّلَاقِ وَتَخْلِيَةَ سَبِيلِهِ قد يَكُونُ بِالْإِعْرَاضِ عنه وقد يَكُونُ بِإِخْرَاجِهِ عن مِلْكِهِ وَذَلِكَ بِإِيقَاعِهِ فَكَانَ اللَّفْظُ مُحْتَمِلًا لِلطَّلَاقِ وَغَيْرِهِ فَتَصِحُّ نِيَّتُهُ وَلَوْ قال أَعْرَضْتُ عن طَلَاقِكِ أو صَفَحْتُ عن طَلَاقِكِ وَنَوَى الطَّلَاقَ لم تَطْلُقْ لِأَنَّ الْإِعْرَاضَ عن الطَّلَاقِ يَقْتَضِي تَرْكَ التَّصَرُّفِ فيه وَالصَّفْحُ هو الْإِعْرَاضُ فَلَا يَحْتَمِلُ الطَّلَاقَ وَلَا تَصِحُّ نِيَّتُهُ وَكَذَا كُلُّ لَفْظٍ لَا يَحْتَمِلُ الطَّلَاقَ لَا يَقَعُ بِهِ الطَّلَاقُ وَإِنْ نَوَى مِثْلُ قَوْلِهِ بَارَكَ اللَّهُ عَلَيْك أو قال لها أَطْعِمِينِي أو أسقيني وَنَحْوَ ذلك وَلَوْ جَمَعَ بين ما يَصْلُحُ لِلطَّلَاقِ وَبَيْنَ ما لَا يَصْلُحُ له بِأَنْ قال لها اذْهَبِي وَكُلِي أو قال اذْهَبِي وَبِيعِي الثَّوْبَ وَنَوَى الطَّلَاقَ بِقَوْلِهِ اذْهَبِي ذُكِرَ في اخْتِلَاف زُفَرَ وَيَعْقُوبَ أَنَّ في قَوْلِ أبي يُوسُفَ لَا يَكُونُ طَلَاقًا وفي قَوْلِ زُفَرَ يَكُونُ طَلَاقًا وَجْهُ قَوْلِ زُفَرَ أَنَّهُ ذَكَرَ لَفْظَيْنِ أَحَدَهُمَا يَحْتَمِلُ الطَّلَاقَ وَالْآخَرَ لَا يحتمل [يحتمله] فَيَلْغُوَ ما لَا يَحْتَمِلُهُ وَيَصِحُّ ما يَحْتَمِلُهُ. وَلِأَبِي يُوسُفَ أَنَّ قَوْلَهُ إذهبي مَقْرُونًا بِقَوْلِهِ كُلِي أو بِيعِي لَا يَحْتَمِلُ الطَّلَاقَ لِأَنَّ مَعْنَاهُ اذْهَبِي لِتَأْكُلِي الطَّعَامَ وَاذْهَبِي لِتَبِيعِي الثَّوْبَ وَالذَّهَابُ لِلْأَكْلِ وَالْبَيْعِ لَا يَحْتَمِلُ الطَّلَاقَ فَلَا تَعْمَلُ نِيَّتُهُ وَلَوْ نَوَى في شَيْءٍ من الْكِنَايَاتِ التي هِيَ بَوَائِنُ أَنْ يَكُونَ ثَلَاثًا مِثْلُ قَوْلِهِ أَنْتِ بَائِنٌ أو أَنْتِ عَلَيَّ حَرَامٌ أو غَيْرِ ذلك يَكُونُ ثَلَاثًا إلَّا في قَوْلِهِ اخْتَارِي لِأَنَّ الْبَيْنُونَةَ نَوْعَانِ غَلِيظَةٌ وَخَفِيفَةٌ فَالْخَفِيفَةُ هِيَ التي تُحِلُّ له الْمَرْأَةَ بَعْدَ بَيْنُونَتِهَا بِنِكَاحٍ جَدِيدٍ بِدُونِ التَّزَوُّجِ بِزَوْجٍ آخَرَ وَالْغَلِيظَةُ ما لَا تُحِلُّ له إلَّا بِنِكَاحٍ جَدِيدٍ بَعْدَ التَّزَوُّجِ بِزَوْجٍ آخَرَ فإذا نَوَى الثَّلَاثَ فَقَدْ نَوَى ما يَحْتَمِلُهُ لَفْظُهُ وَالدَّلِيلُ عليه ما رُوِيَ أَنَّ رُكَانَةَ بن زَيْدٍ أو زَيْدَ بن رُكَانَةَ طَلَّقَ إمرأته البتة فَاسْتَحْلَفَهُ رسول اللَّهِ ما أَرَدْتَ ثَلَاثًا فَلَوْ لم يَكُنِ اللَّفْظُ مُحْتَمِلًا لِلثَّلَاثِ لم يَكُنْ لِلِاسْتِحْلَافِ مَعْنًى وَكَذَا قَوْلُهُ أَنْتِ عَلَيَّ حَرَامٌ يَحْتَمِلُ الْحُرْمَةَ الْغَلِيظَةَ وَالْخَفِيفَةَ فإذا نَوَى الثَّلَاثَ فَقَدْ نَوَى احدى نَوْعَيْ الْحُرْمَةِ فَتَصِحُّ نِيَّتُهُ وَإِنْ نَوَى ثِنْتَيْنِ كانت وَاحِدَةً في قَوْلِ أَصْحَابِنَا الثَّلَاثَةِ. وقال زُفَرُ يَقَعُ ما نَوَى وَجْهُ قَوْلِهِ أن الْحُرْمَةَ وَالْبَيْنُونَةَ أَنْوَاعٌ ثَلَاثَةٌ خَفِيفَةٌ وَغَلِيظَةٌ وَمُتَوَسِّطَةٌ بَيْنَهُمَا وَلَوْ نَوَى أَحَدَ النَّوْعَيْنِ صَحَّتْ نِيَّتُهُ فَكَذَا إذَا نَوَى الثَّلَاثَ لِأَنَّ اللَّفْظَ يَحْتَمِلُ الْكُلَّ على وَجْهٍ وَاحِدٍ وَلَنَا أَنَّ قَوْلَهُ بَائِنٌ أو حَرَامٌ اسْمٌ لِلذَّاتِ وَالذَّاتُ وَاحِدَةٌ فَلَا تَحْتَمِلُ الْعَدَدَ وَإِنَّمَا اُحْتُمِلَ الثَّلَاثُ من حَيْثُ التَّوَحُّدُ على ما بَيَّنَّا في صَرِيحِ الطَّلَاقِ وَلَا تَوَحُّدَ في الِاثْنَيْنِ أَصْلًا بَلْ هو عَدَدٌ مَحْضٌ فَلَا يَحْتَمِلُهُ الِاسْمُ الْمَوْضُوعُ لِلْوَاحِدِ مع ما إن الْحَاصِلَ بِالثِّنْتَيْنِ وَالْحَاصِلَ بِالْوَاحِدَةِ سَوَاءٌ لِأَنَّ أَثَرَهُمَا في الْبَيْنُونَةِ وَالْحُرْمَةِ سَوَاءٌ أَلَا تَرَى أنها تَحِلُّ في كل وَاحِدَةٍ مِنْهُمَا بِنِكَاحٍ جَدِيدٍ من غَيْرِ التَّزَوُّجِ بِزَوْجٍ آخَرَ فَكَانَ الثَّابِتُ بِهِمَا بَيْنُونَةً خَفِيفَةً وَحُرْمَةً خَفِيفَةً كَالثَّابِتِ بِالْوَاحِدِ فَلَا يَكُونُ هَهُنَا قِسْمٌ ثَالِثٌ في الْمَعْنَى وَعَلَى هذا قال أَصْحَابُنَا أنه إذَا قال لِزَوْجَتِهِ الْأَمَةِ أَنْتِ بَائِنٌ أو حَرَامٌ يَنْوِي الثنتين [الاثنتين] يَقَعُ ما نَوَى لِأَنَّ الاثنيتين [الاثنتين] في الْأَمَةِ كُلُّ جِنْسِ الطَّلَاقِ في حَقِّهَا فَكَانَ الثِّنْتَانِ في حَقِّ الْأَمَةِ كَالثَّلَاثِ في حَقِّ الْحُرَّةِ وَقَالُوا لو طَلَّقَ زَوْجَتَهُ الْحُرَّةَ وَاحِدَةً ثُمَّ قال لها أَنْتِ بَائِنٌ أو حَرَامٌ يَنْوِي اثْنَتَيْنِ كانت وَاحِدَةً لِأَنَّ الِاثْنَتَيْنِ بِأَنْفُسِهِمَا لَيْسَا كُلَّ جِنْسِ طَلَاقِ الْحُرَّةِ بِدُونِ الطَّلْقَةِ الْمُتَقَدِّمَةِ أَلَا تَرَى أنها لَا تَبِينُ فَالِاثْنَتَيْنِ بَيْنُونَةٌ غَلِيظَةٌ بِدُونِهَا وَلَوْ نَوَى بِقَوْلِهِ اعتدى واستبري [استبرئي] رَحِمَكِ وَأَنْتِ وَاحِدَةٌ ثَلَاثًا لم تَصِحَّ لِأَنَّ هذه الْأَلْفَاظَ في حُكْمِ الصَّرِيحِ أَلَا تَرَى أَنَّ الْوَاقِعَ بها رَجْعِيَّةٌ فَصَارَ كَأَنَّهُ قال أَنْتِ طَالِقٌ وَنَوَى بِهِ الثَّلَاثَ وَلِأَنَّ قَوْلَهُ أَنْتِ وَاحِدَةٌ لَا يَحْتَمِلُ أَنْ يُفَسَّرَ بِالثَّلَاثِ فَلَا يَحْتَمِلُ نِيَّةَ الثَّلَاثِ وَكَذَا قَوْلُهُ اعتدى واستبرى [واستبرئي] رَحِمَك لِأَنَّ الْوَاقِعَ بِكُلِّ وَاحِدَةٍ مِنْهُمَا رَجْعِيٌّ فَصَارَ كَقَوْلِهِ أَنْتِ وَاحِدَةٌ وَكَذَا لو نَوَى بها اثْنَتَيْنِ لَا يَصِحُّ لِمَا قُلْنَا بَلْ أَوْلَى لِأَنَّ الِاثْنَتَيْنِ عَدَدٌ مَحْضٌ وَالله أعلم.
وَأَمَّا النَّوْعُ الثَّانِي فَهُوَ أَنْ يَكْتُبَ على قِرْطَاسٍ أو لَوْحٍ أو أَرْضٍ أو حَائِطٍ كتابةً مُسْتَبِينَةً لَكِنْ لَا على وَجْهِ الْمُخَاطَبَةِ امْرَأَتُهُ طَالِقٌ فَيُسْأَلُ عن نِيَّتِهِ فَإِنْ قال نَوَيْتُ بِهِ الطَّلَاقَ وَقَعَ وَإِنْ قال لم أَنْوِ بِهِ الطَّلَاقَ صُدِّقَ في الْقَضَاءِ لِأَنَّ الْكتابةَ على هذا الْوَجْهِ بِمَنْزِلَةِ الْكتابةِ لِأَنَّ الْإِنْسَانَ قد يَكْتُبُ على هذا الْوَجْهِ وَيُرِيدُ بِهِ الطَّلَاقَ وقد يَكْتُبُ لِتَجْوِيدِ الْخَطِّ فَلَا يُحْمَلُ على الطَّلَاقِ إلَّا بِالنِّيَّةِ وَإِنْ كتب [كتبت] كتابةٌ غَيْرُ مُسْتَبِينَةٍ بِأَنْ كَتَبَ على الْمَاءِ أو على الْهَوَاءِ فَذَلِكَ ليس بِشَيْءٍ حتى لَا يَقَعَ بِهِ الطَّلَاقُ وَإِنْ نَوَى لِأَنَّ ما لَا تَسْتَبِينُ بِهِ الْحُرُوفُ لَا يُسَمَّى كتابةً فَكَانَ مُلْحَقًا بِالْعَدَمِ وَإِنْ كَتَبَ كتابةً مَرْسُومَةً على طَرِيقِ الْخِطَابِ وَالرِّسَالَةِ مِثْلُ أَنْ يَكْتُبَ أَمَّا بَعْدَ يا فُلَانَةُ فَأَنْتِ طَالِقٌ أو إذَا وَصَلَ كتابي إلَيْك فَأَنْتِ طَالِقٌ يَقَعُ بِهِ الطَّلَاقُ. وَلَوْ قال ما أَرَدْتُ بِهِ الطَّلَاقَ أَصْلًا لَا يُصَدَّقُ إلَّا أَنْ يَقُولَ نَوَيْت طَلَاقًا من وَثَاقٍ فَيُصَدَّقُ فِيمَا بَيْنَهُ وَبَيْنَ اللَّهِ عز وجل لِأَنَّ الْكتابةَ الْمَرْسُومَةَ جَارِيَةٌ مَجْرَى الْخِطَابِ أَلَا تَرَى أَنَّ رَسُولَ اللَّهِ صلى اللَّهُ عليه وسلم كان يُبَلِّغُ بِالْخِطَابِ مِرَّةً وَبِالْكتاب أُخْرَى وَبِالرَّسُولِ ثَالِثًا وكان التَّبْلِيغُ بِالْكتاب وَالرَّسُولِ كَالتَّبْلِيغِ بِالْخِطَابِ فَدَلَّ أَنَّ الْكتابةَ الْمَرْسُومَةَ بِمَنْزِلَةِ الْخِطَابِ فَصَارَ كَأَنَّهُ خَاطَبَهَا بِالطَّلَاقِ عِنْدَ الْحَضْرَةِ فقال لها أَنْتِ طَالِقٌ أو أَرْسَلَ إلَيْهَا رَسُولًا بِالطَّلَاقِ عِنْدَ الْغَيْبَةِ فإذا قال ما أَرَدْتُ بِهِ الطَّلَاقَ فَقَدْ أَرَادَ صَرْفَ الْكَلَامِ عن ظَاهِرِهِ فَلَا يُصَدَّقُ ثُمَّ إنْ كَتَبَ على الْوَجْهِ الْمَرْسُومِ ولم يعلقه [يعقله] بِشَرْطٍ بِأَنْ كَتَبَ أَمَّا بَعْدُ يا فُلَانَةُ فَأَنْتِ طالق وَقَعَ الطَّلَاقُ عَقِيبَ كتابةِ لَفْظِ الطَّلَاقِ بِلَا فصل لِمَا ذَكَرْنَا أَنَّ كتابةَ قَوْلِهِ أَنْتِ طَالِقٌ على طَرِيقِ الْمُخَاطَبَةِ بِمَنْزِلَةِ التَّلَفُّظِ بها وَإِنْ علقة بِشَرْطِ الْوُصُولِ إلَيْهَا بِأَنْ كَتَبَ إذَا وَصَلَ كتابي إلَيْكِ فَأَنْتِ طَالِقٌ لَا يَقَعُ الطَّلَاقُ حتى يَصِلَ إلَيْهَا لِأَنَّهُ عَلَّقَ الْوُقُوعَ بِشَرْطِ الْوُصُولِ فَلَا يَقَعُ قَبْلَهُ كما لو عَلَّقَهُ بِشَرْطٍ آخَرَ. وَقَالُوا فِيمَنْ كَتَبَ كتابا على وَجْهِ الرِّسَالَةِ وَكَتَبَ إذَا وَصَلَ كتابي إلَيْكِ فَأَنْتِ طَالِقٌ ثُمَّ مَحَا ذِكْرَ الطَّلَاقِ منه وَأَنْفَذَ الْكتاب وقد بَقِيَ منه كَلَامٌ يُسَمَّى كتابا وَرِسَالَةً وَقَعَ الطَّلَاقُ لِوُجُودِ الشَّرْطِ وهو وُصُولُ الْكتاب إلَيْهَا فَإِنْ مَحَا ما في الْكتاب حتى لم يَبْقَ منه كَلَامٌ يَكُونُ رِسَالَةً لم يَقَعْ الطَّلَاقُ وَإِنْ وَصَلَ لِأَنَّ الشَّرْطَ وُصُولُ الْكتاب ولم يُوجَدْ لِأَنَّ ما بَقِيَ منه لَا يُسَمَّى كتابا فلم يُوجَدْ الشَّرْطُ فَلَا يَقَعُ الطَّلَاقُ وَالله أعلم. هذا الذي ذَكَرْنَا بَيَانُ الْأَلْفَاظِ التي يَقَعُ بها الطَّلَاقُ في الشَّرْعِ. وَأَمَّا بَيَانُ صِفَةِ الْوَاقِعِ بها فَالْوَاقِعُ بِكُلِّ وَاحِدٍ من النَّوْعَيْنِ اللَّذَيْنِ ذَكَرْنَاهُمَا من الصَّرِيحِ وَالْكِنَايَةِ نَوْعَانِ رَجْعِيٌّ وَبَائِنٌ أَمَّا الصَّرِيحُ الرَّجْعِيُّ فَهُوَ أَنْ يَكُونَ الطَّلَاقُ بَعْدَ الدُّخُولِ حَقِيقَةً غير مَقْرُونٍ بِعِوَضٍ وَلَا بِعَدَدِ الثَّلَاثِ لَا نَصًّا وَلَا إشَارَةً وَلَا مَوْصُوفًا بِصِفَةٍ تنبيء عن الْبَيْنُونَةِ أو تَدُلُّ عليها من غَيْرِ حَرْفِ الْعَطْفِ وَلَا مُشَبَّهٍ بِعَدَدٍ أو وَصْفٍ تدل [يدل] عليها وَأَمَّا الصَّرِيحُ الْبَائِنُ فَبِخِلَافِهِ وهو أَنْ يَكُونَ بِحُرُوفِ الْإِبَانَةِ أو بِحُرُوفِ الطَّلَاقِ لَكِنْ قبل الدُّخُولِ حَقِيقَةً أو بَعْدَهُ لَكِنْ مَقْرُونًا بِعَدَدِ الثَّلَاثِ نَصًّا أو إشَارَةً أو مَوْصُوفًا بِصِفَةٍ تَدُلُّ عليها إذَا عُرِفَ هذا فَصَرِيحُ الطَّلَاقِ قبل الدُّخُولِ حَقِيقَةً يَكُونُ بَائِنًا لِأَنَّ الْأَصْلَ في اللَّفْظِ الْمُطْلَقِ عن شَرْطٍ أَنْ يُفِيدَ الْحُكْمَ فِيمَا وُضِعَ له لِلْحَالِ وَالتَّأَخُّرِ فِيمَا بَعْدَ الدُّخُولِ إلَى وَقْتِ انْقِضَاءِ الْعِدَّةِ ثَبَتَ شَرْعًا بِخِلَافِ الْأَصْلِ فَيُقْتَصَرُ على مَوْرِدِ الشَّرْعِ فَبَقِيَ الْحُكْمُ فِيمَا قبل الدُّخُولِ على الْأَصْلِ وَلَوْ خَلَا بها خَلْوَةً صَحِيحَةً ثُمَّ طَلَّقَهَا صَرِيحَ الطَّلَاقِ وقال لم أُجَامِعْهَا كان طَلَاقًا بَائِنًا حتى لَا يَمْلِكَ مُرَاجَعَتَهَا وَإِنْ كان لِلْخَلْوَةِ حُكْمُ الدُّخُولِ لِأَنَّهَا لَيْسَتْ بِدُخُولٍ حَقِيقَةً فَكَانَ هذا طَلَاقًا قبل الدُّخُولِ حَقِيقَةً فَكَانَ بَائِنًا. وَكَذَلِكَ إذَا كان مَقْرُونًا بِعِوَضٍ وهو الْخُلْعُ بِبَدَلٍ وَالطَّلَاقُ على مَالٍ لِأَنَّ الْخُلْعَ بِعِوَضٍ طَلَاقٌ على مَالٍ عِنْدَنَا على ما نَذْكُرُ إن شاء الله تعالى. وَالطَّلَاقُ على مَالٍ مُعَاوَضَةُ الْمَالِ بِالنَّفْسِ وقد مَلَكَ الزَّوْجُ أَحَدَ الْعِوَضَيْنِ بِنَفْسِ الْقَبُولِ وهو مَالُهَا فَتَمْلِكُ هِيَ الْعِوَضَ الْآخَرَ وهو نَفْسَهَا تَحْقِيقًا لِلْمُعَاوَضَةِ الْمُطْلَقَةِ وَلَا تَمْلِكُ إلَّا بِالْبَائِنِ فَكَانَ الْوَاقِعُ بَائِنًا وَكَذَلِكَ إذَا كان مَقْرُونًا بِعَدَدِ الثَّلَاثِ نَصًّا بِأَنْ قال لها أَنْتِ طَالِقٌ ثَلَاثًا لِقَوْلِهِ عز وجل: {فَإِنْ طَلَّقَهَا فَلَا تَحِلُّ له من بَعْدُ حتى تَنْكِحَ زَوْجًا غَيْرَهُ}وَكَذَا إذَا أَشَارَ إلَى عَدَدِ الثَّلَاثِ بِأَنْ قال لها أَنْتِ طَالِقٌ هَكَذَا يُشِيرُ بالابهام وَالسَّبابةِ وَالْوُسْطَى وَإِنْ أَشَارَ بأصبع وَاحِدَةٍ فَهِيَ وَاحِدَةٌ يَمْلِكُ الرَّجْعَةَ وَإِنْ أَشَارَ بِاثْنَتَيْنِ فَهِيَ اثْنَتَانِ لِأَنَّ الْإِشَارَةَ مَتَى تَعَلَّقَتْ بها الْعِبَارَةُ نُزِّلَتْ مَنْزِلَةَ الْكَلَامِ لِحُصُولِ ما وُضِعَ له الْكَلَامُ بها وهو الْإِعْلَامُ. وَالدَّلِيلُ عليه الْعُرْفُ وَالشَّرْعُ أَيْضًا أَمَّا الْعُرْفُ فَظَاهِرٌ وَأَمَّا الشَّرْعُ فَقَوْلُ النبي صلى الله عليه وسلم الشَّهْرُ هَكَذَا وَهَكَذَا وَهَكَذَا وَأَشَارَ صلى اللَّهُ عليه وسلم بِأَصَابِعِ يَدَيْهِ كُلِّهَا فَكَانَ بَيَانًا أَنَّ الشَّهْرَ يَكُونُ ثَلَاثِينَ يَوْمًا ثُمَّ قال صلى اللَّهُ عليه وسلم الشَّهْرُ هَكَذَا وَهَكَذَا وَهَكَذَا وَحَبَسَ إبْهَامَهُ في الْمَرَّةِ الثَّالِثَةِ فَكَانَ بَيَانًا أَنَّ الشَّهْرَ يَكُونُ تِسْعَةً وَعِشْرِينَ يَوْمًا وإذا قَامَتْ الْإِشَارَةُ مع تَعَلُّقِ الْعِبَارَةِ بها مَقَامَ الْكَلَامِ صَارَ كَأَنَّهُ قال أَنْتِ طَالِقٌ ثَلَاثًا وَالْمُعْتَبَرُ في الْأَصَابِعِ عَدَدُ الْمُرْسَلِ منها دُونَ الْمَقْبُوضِ لِاعْتِبَارِ الْعُرْفِ وَالْعَادَةِ وَالدَّلِيلُ عليه أَنَّ النبي صلى الله عليه وسلم لَمَّا قال الشَّهْرُ هَكَذَا وَهَكَذَا وَهَكَذَا وَقَبَضَ إبْهَامَهُ في الْمَرَّةِ الثَّالِثَةِ فُهِمَ منه تِسْعَةٌ وَعِشْرُونَ يَوْمًا وَلَوْ اُعْتُبِرَ الْمَقْبُوضُ لَكَانَ الْمَفْهُومُ منه أَحَدًا وَعِشْرِينَ يَوْمًا فَدَلَّ أَنَّ الْمُعْتَبَرَ في الْإِشَارَةِ بِالْأَصَابِعِ الْمُرْسَلُ منها لَا الْمَقْبُوضُ وَكَذَا إذَا كان مَوْصُوفًا بِصِفَةٍ تنبىء عن الْبَيْنُونَةِ أو تَدُلُّ عليها من غَيْرِ حَرْفِ الْعَطْفِ مِثْلُ قَوْلِهِ أَنْتِ طَالِقٌ بَائِنٌ أو أَنْتِ طَالِقٌ حَرَامٌ أو أَنْتِ طَالِقٌ أَلْبَتَّةَ وَنَحْوَ ذلك وَهَذَا عِنْدَنَا وقال الشَّافِعِيُّ يَقَعُ وَاحِدَةٌ رَجْعِيَّةٌ. وَجْهُ قَوْلِهِ أَنَّهُ لَمَّا قال أَنْتِ طَالِقٌ فَقَدْ أتى بِصَرِيحِ الطَّلَاقِ وَأَنَّهُ مُعَقِّبٌ لِلرَّجْعَةِ فلما قال بَائِنٌ فَقَدْ أَرَادَ تَغْيِيرَ الْمَشْرُوعِ فَيُرَدُّ عليه كما لو قال أَعَرْتُكِ عَارِيَّةً لَا رَدَّ فيها وَكَمَا لو قال أَنْتِ طَالِقٌ وقال أَرَدْتُ بِهِ الْإِبَانَةَ وَلَنَا أَنَّهُ وَصَفَ الْمَرْأَةَ بِالْبَيْنُونَةِ بِالطَّلَاقِ الْأَوَّلِ وَأَنَّهُ مِمَّا يَحْتَمِلُ الْبَيْنُونَةَ أَلَا تَرَى أَنَّهُ تَحْصُلُ الْبَيْنُونَةُ قبل الدُّخُولِ وَبَعْدَهُ بَعْدَ إنقضاء الْعِدَّةِ فَكَانَ قَوْلُهُ بَائِنٌ قَرِينَةً مُبَيِّنَةً لَا مُغَيِّرَةً ثُمَّ إذَا لم يَكُنْ له نِيَّةٌ لَا يَقَعُ تَطْلِيقَةٌ بِقَوْلِهِ طَالِقٌ وَالْأُخْرَى بِقَوْلِهِ بَائِنٌ وَنَحْوِ ذلك لِأَنَّ قَوْلَهُ بَائِنٌ وَنَحْوَ ذلك يَصْلُحُ وَصْفًا لِلْمَرْأَةِ بِالطَّلَاقِ الْأَوَّلِ فَلَا يَثْبُتُ إلَّا مُقْتَضًى وَاحِدٌ لِأَنَّ ثُبُوتَهُ بِطَرِيقِ الضَّرُورَةِ فَيُؤْخَذُ فيه بِالْأَدْنَى وَكَذَا إذَا قال لها أَنْتِ طَالِقٌ تَطْلِيقَةً قَوِيَّةً أو شَدِيدَةً لِأَنَّ الشِّدَّةَ تنبىء عن الْقَوِيَّةِ والقوى هو الْبَائِنُ وَكَذَا إذَا قال لها أَنْتِ طَالِقٌ تَطْلِيقَةً طَوِيلَةً أو عَرِيضَةً لِأَنَّ الطُّولَ وَالْعَرْضَ يَقْتَضِيَانِ الْقُوَّةَ وَلَوْ قال لها أَنْتِ طَالِقٌ من ههنا [هنا] إلَى مَوْضِعِ كَذَا فَهُوَ رَجْعِيٌّ في قَوْلِ أَصْحَابِنَا الثَّلَاثَةِ وَعِنْدَ زُفَرَ هو بَائِنٌ وَجْهُ قَوْلِهِ أَنَّهُ وَصَفَ الطَّلَاقَ بِالطُّولِ فَصَارَ كما لو قال لها أَنْتِ طَالِقٌ تَطْلِيقَةً طَوِيلَةً وَلَنَا أَنَّهُ وَصَفَهُ بِالطُّولِ صُورَةً وَبِالْقَصْرِ مَعْنًى لِأَنَّ الطَّلَاقَ إذَا وَقَعَ في مَكَان يَقَعُ في الْأَمَاكِنِ كُلِّهَا فَكَانَ الْقَصْرُ على بَعْضِ الْأَمَاكِنِ وَصْفًا له بِالْقَصْرِ وَالطَّلْقَةُ الْقَصِيرَةُ هِيَ الرَّجْعِيَّةُ. وَلَوْ قال أَنْتِ طَالِقٌ أَشَدَّ الطَّلَاقِ فَإِنْ لم يَكُنْ له نِيَّةٌ أو نَوَى وَاحِدَةً فَهِيَ وَاحِدَةٌ بَائِنَةٌ لِأَنَّ حُكْمَ الْبَائِنِ أَشَدُّ من حُكْمِ الرَّجْعِيِّ فَيَقَعُ بَائِنًا وَإِنْ نَوَى ثَلَاثًا فَثَلَاثٌ لِأَنَّ أَلِفَ الفضيل [التفضيل] قد تُذْكَرُ لِبَيَانِ أَصْلِ التَّفَاوُتِ وهو مُطْلَقُ التَّفَاوُتِ وَذَلِكَ في الْوَاحِدَةِ الْبَائِنَةِ لِأَنَّهَا أَشَدُّ حُكْمًا من الرَّجْعِيَّةِ وقد تُذْكَرُ لِبَيَانِ نِهَايَةِ التَّفَاوُتِ وهو مُطْلَقُ التَّفَاوُتِ وَذَلِكَ في الثَّلَاثِ فإذا نَوَى الثَّلَاثَ فَقَدْ نَوَى ما يَحْتَمِلُهُ كَلَامُهُ فَصَحَّتْ نِيَّتُهُ وَإِنْ لم يَكُنْ له نِيَّةٌ يَنْصَرِفُ إلَى الْأَدْنَى لِأَنَّهُ مُتَيَقَّنٌ بِهِ وَلَوْ قال لها أَنْتِ طَالِقٌ مِلْءَ الْبَيْتِ فَإِنْ نَوَى الثَّلَاثَ كان ثَلَاثًا وَإِنْ لم يَكُنْ له نِيَّةٌ فَهُوَ وَاحِدَةٌ بَائِنَةٌ لِأَنَّ قَوْلَهُ مِلْءَ الْبَيْتِ يَحْتَمِلُ أَنَّهُ أَرَادَ بِهِ الْكَثْرَةَ وَالْعَدَدَ وَيَحْتَمِلُ أَنَّهُ أَرَادَ بِهِ الصِّفَةَ وَهِيَ الْعِظَمُ وَالْقُوَّةُ فَأَيُّ ذلك نَوَى فَقَدْ نَوَى ما يَحْتَمِلُهُ لَفْظُهُ وَعِنْدَ انْعِدَامِ النِّيَّةِ يُحْمَلُ على الْوَاحِدَةِ الْبَائِنَةِ لِكَوْنِهِ مُتَيَقَّنًا بها وَلَوْ قال لها أَنْتِ طَالِقٌ أَقْبَحَ الطَّلَاقِ قال أبو يُوسُفَ هو رَجْعِيٌّ وقال مُحَمَّدٌ هو بَائِنٌ وَجْهُ قَوْلِ مُحَمَّدٍ أنه وَصَفَ الطَّلَاقَ بِالْقُبْحِ وَالطَّلَاقُ الْقَبِيحُ هو الطَّلَاقُ المنهى عنه وهو الْبَائِنُ فَيَقَعُ بَائِنًا وَلِأَبِي يُوسُفَ أَنَّ قَوْلَهُ أَقْبَحَ الطَّلَاقِ يَحْتَمِلُ الْقُبْحَ الشَّرْعِيَّ وهو الْكَرَاهِيَةُ الشَّرْعِيَّةُ وَيَحْتَمِلُ الْقُبْحَ الطَّبَعِيَّ وهو الْكَرَاهِيَةُ الطَّبِيعِيَّةُ وهو أَنْ يُطَلِّقَهَا في وَقْتٍ يُكْرَهُ الطَّلَاقُ فيه طَبْعًا فَلَا تَثْبُتُ الْبَيْنُونَةُ فيه بِالشَّكِّ وَكَذَا قَوْلُهُ أَقْبَحَ الطَّلَاقِ يَحْتَمِلُ الْقُبْحَ بِجِهَةِ الْإِبَانَةِ وَيَحْتَمِلُ الْقُبْحَ بِإِيقَاعِهِ في زَمَنِ الْحَيْضِ أو في طُهْرٍ جَامَعَهَا فيه فَلَا تَثْبُتُ الْبَيْنُونَةُ بِالشَّكِّ. وَلَوْ قال أَنْتِ طَالِقٌ لِلْبِدْعَةِ فَهِيَ وَاحِدَةٌ رَجْعِيَّةٌ لِأَنَّ الْبِدْعَةَ قد تَكُونُ في الْبَائِنِ وقد تَكُونُ في الطَّلَاقِ حَالَةَ الْحَيْضِ فَوَقَعَ الشَّكُّ في ثُبُوتِ الْبَيْنُونَةِ فَلَا تَثْبُت الْبَيْنُونَةُ بِالشَّكِّ وَلَوْ قال لها أَنْتِ طَالِقٌ طَلَاقَ الشَّيْطَانِ فَهُوَ كَقَوْلِهِ أَنْتِ طَالِقٌ لِلْبِدْعَةِ وروى عن أبي يُوسُفَ فِيمَنْ قال لِامْرَأَتِهِ أَنْتِ طَالِقٌ لِلْبِدْعَةِ وَنَوَى وَاحِدَةً بَائِنَةً تَقَعُ وَاحِدَةٌ بَائِنَةٌ لِأَنَّ لَفْظَهُ يَحْتَمِلُ ذلك على ما بَيَّنَّا فَتَصِحُّ نِيَّتُهُ وَلَوْ شَبَّهَ صَرِيحَ الطَّلَاقَ بالعدة [بالعدد] فَهَذَا على وَجْهَيْنِ إمَّا إن شَبَّهَ بِالْعَدَدِ فِيمَا له عَدَدٌ وَإِمَّا إن شَبَّهَ بِالْعَدَدِ فِيمَا لَا عَدَدَ له فَإِنْ شَبَّهَ بِالْعَدَدِ فِيمَا هو ذُو عَدَدٍ كما لو قال لها أَنْتِ طَالِقٌ كَأَلْفٍ أو مِثْلِ أَلْفٍ فَهُنَا ثَلَاثَةُ فُصُولٍ الْأَوَّلِ هذا وَالثَّانِي أَنْ يَقُولَ لها أَنْتِ طَالِقٌ وَاحِدَةً كَأَلْفٍ أو مِثْلِ أَلْفٍ وَالثَّالِثِ أَنْ يَقُولَ لها أَنْتِ طَالِقٌ كَعَدَدِ أَلْفٍ أَمَّا الْفصل الْأَوَّلُ فَإِنْ نَوَى ثَلَاثًا فَهُوَ ثَلَاثٌ بِالْإِجْمَاعِ وَإِنْ نَوَى وَاحِدَةً أو لم يَكُنْ له نِيَّةٌ فهى وَاحِدَةٌ بَائِنَةٌ في قَوْلِ أبي حَنِيفَةَ وَأَبِي يُوسُفَ وقال مُحَمَّدٌ هو ثَلَاثٌ وَلَوْ قال نَوَيْت بِهِ وَاحِدَةً دَيَّنْته فِيمَا بَيْنَهُ وَبَيْنَ اللَّهِ تَعَالَى ولم أُدَيِّنْهُ في الْقَضَاءِ. وَجْهُ قَوْلِهِ إن قَوْلَهُ كَأَلْفٍ تَشْبِيهٌ بِالْعَدَدِ إذْ الْأَلْفُ من أَسْمَاءِ الاعداد فَصَارَ كما لو نَصَّ على الْعَدَدِ فقال لها أَنْتِ طَالِقٌ كَعَدَدِ أَلْفٍ وَلَوْ قال ذلك كان ثَلَاثًا كَذَا هذا وَلَهُمَا إن التَّشْبِيهَ بِالْأَلْفِ يَحْتَمِلُ التَّشْبِيهَ من حَيْثُ الْعَدَدُ وَيَحْتَمِلُ التَّشْبِيهَ من حَيْثُ الصِّفَةُ وهو صِفَةُ الْقُوَّةِ وَالشِّدَّةِ فإن الْوَاحِدَ من الرِّجَالِ قد يُشَبَّهُ بِأَلْفِ رَجُلٍ في الشَّجَاعَةِ وإذا كان مُحْتَمِلًا لَهُمَا فَلَا يَثْبُتُ الْعَدَدُ إلَّا بِالنِّيَّةِ فإذا نَوَى فَقَدْ نَوَى ما يَحْتَمِلُهُ كَلَامُهُ وَعِنْدَ عَدَمِ النِّيَّةِ يُحْمَلُ على الْأَدْنَى لِأَنَّهُ مُتَيَقِّنٌ بِهِ وَلَا يُحْمَلُ على الْعَدَدِ بِالشَّكِّ وَأَمَّا الْفصل الثَّانِي وهو ما إذَا قال أَنْتِ طَالِقٌ وَاحِدَةً كَأَلْفٍ فَهِيَ وَاحِدَةٌ بائتة [بائنة] في قَوْلِهِمْ جميعا لِأَنَّهُ لَمَّا نَصَّ على الْوَاحِدَةِ عُلِمَ أَنَّهُ ما أَرَادَ بِهِ التَّشْبِيهَ من حَيْثُ الْعَدَدُ فَتَعَيَّنَ التَّشْبِيهُ في الْقُوَّةِ وَالشِّدَّةِ وَذَلِكَ في الْبَائِنِ فَيَقَعُ بَائِنًا. وَأَمَّا الْفصل الثَّالِثُ وهو ما إذَا قال لها أَنْتِ طَالِقٌ كَعَدَدِ أَلْفٍ أو كَعَدَدِ ثَلَاثٍ أو مِثْلِ عَدَدِ ثَلَاثٍ فَهُوَ ثَلَاثٌ في الْقَضَاءِ وَفِيمَا بَيْنَهُ وَبَيْنَ اللَّهِ تَعَالَى وَلَوْ نَوَى غير ذلك فَنِيَّتُهُ بَاطِلَةٌ لِأَنَّ التَّنْصِيصَ على الْعَدَدِ يَنْفِي احْتِمَالَ إرَادَةِ الْوَاحِدِ فَلَا يُصَدَّقُ أَنَّهُ ما أَرَادَ بِهِ الثَّلَاثَ أَصْلًا كما إذَا قال أَنْتِ طَالِقٌ ثَلَاثًا وَنَوَى الْوَاحِدَةَ وَإِنْ شَبَّهَ بِالْعَدَدِ فِيمَا لَا عَدَدَ له بِأَنْ قال أَنْتِ طَالِقٌ مِثْلُ عَدَدِ كَذَا أو كَعَدَدِ كَذَا لِشَيْءٍ لَا عَدَدَ له كَالشَّمْسِ وَالْقَمَرِ وَنَحْوِ ذلك فَهِيَ وَاحِدَةٌ بَائِنَةٌ في قِيَاسِ قَوْلِ أبي حَنِيفَةَ وَعِنْدَ أبي يُوسُفَ هِيَ وَاحِدَةٌ يَمْلِكُ الرَّجْعَةَ وَجْهُ قَوْلِ أبي يُوسُفَ أَنَّ التَّشْبِيهَ بِالْعَدَدِ فِيمَا لَا عَدَدَ له لَغْوٌ فبط [فبطل] التَّشْبِيهُ وَقَوْلُهُ أَنْتِ طَالِقٌ وَلِأَبِي حَنِيفَةَ أَنَّ هذا النَّوْعَ من التَّشْبِيهِ يَقْتَضِي ضَرْبًا من الزِّيَادَةِ لَا مَحَالَةَ وَلَا يُمْكِنُ حَمْلُهُ على الزِّيَادَةِ من حَيْثُ الْعَدَدُ فَيُحْمَلُ على الزِّيَادَةِ من حَيْثُ الصِّفَةُ. وَقَالُوا فِيمَنْ قال لِامْرَأَتِهِ أَنْتِ طَالِقٌ عَدَدَ شَعْرِ رَاحَتِي أو عَدَدَ ما على ظَهْرِ كَفِّي من الشَّعْرِ وقد حَلَقَ ظَهَرَ كَفِّهِ طَلُقَتْ وَاحِدَةً لِأَنَّهُ شَبَّهَ بِمَا لَا عَدَدَ له لِأَنَّهُ عَلَّقَ الطَّلَاقَ بِوُجُودِ الشَّعْرِ على رَاحَتِهِ أو على ظَهْرِ كَفِّهِ لِلْحَالِ وَلَيْسَ على رَاحَتِهِ وَلَا على ظَهْرِ كَفِّهِ شَعْرٌ لِلْحَالِ فَلَا يَتَحَقَّقُ التَّشَبُّهُ بِالْعَدَدِ فَلَغَا التَّشَبُّهُ وَبَقِيَ قَوْلُهُ أَنْتِ طَالِقٌ فَيَكُونُ رَجْعِيًّا وَلَوْ قال أَنْتِ طَالِقٌ عَدَدَ شَعْرِ رَأْسِي وَعَدَدَ شَعْرِ ظَهْرِ كَفِّي وقد حَلَقَهُ طَلُقَتْ ثَلَاثًا لِأَنَّهُ شَبَّهَ بِمَا له عَدَدٌ لِأَنَّ شَعْرَ رَأْسِهِ ذُو عَدَدٍ وَإِنْ لم يَكُنْ مَوْجُودًا في الْحَالِ فَكَانَ هذا تَشْبِيهًا بِهِ حَالَ وُجُودِهِ وهو حَالَ وُجُودِهِ ذُو عَدَدٍ بِخِلَافِ الْمَسْأَلَةِ الْأُولَى لِأَنَّ ذلك تَعْلِيقُ التَّشْبِيهِ بِوُجُودِهِ لِلْحَالِ وهو غَيْرُ مَوْجُودٍ لِلْحَالِ فَيَلْغُو التَّشْبِيهُ وَلَوْ قال لها أَنْتِ طَالِقٌ مِثْلَ الْجَبَلِ أو مِثْلَ حَبَّةِ الْخَرْدَلِ فَهِيَ وَاحِدَةٌ بَائِنَةٌ في قَوْلِ أبي حَنِيفَةَ وَعِنْدَ أبي يُوسُفَ هِيَ وَاحِدَةٌ يَمْلِكُ الرَّجْعَةَ وَجْهُ قَوْلِ أبي يُوسُفَ أَنَّ قَوْلَهُ مِثْلُ الْجَبَلِ أو مِثْلُ حَبَّةِ الْخَرْدَلِ يَحْتَمِلُ التَّشْبِيهَ في التَّوَحُّدِ لِأَنَّ الْجَبَلَ بِجَمِيعِ أَجْزَائِهِ شَيْءٌ وَاحِدٌ غَيْرُ مُتَعَدِّدٍ فَلَا تَثْبُتُ الْبَيْنُونَةُ بِالشَّكِّ وَلِأَبِي حَنِيفَةَ أَنَّ هذا التَّشْبِيهَ يَقْتَضِي زِيَادَةً لَا مَحَالَةَ وَأَنَّهُ لَا يَحْتَمِلُ الزِّيَادَةَ من حَيْثُ الْعَدَدُ لِأَنَّهُ ليس بِذِي عَدَدٍ لِكَوْنِهِ وَاحِدًا في الذَّاتِ فَيُحْمَلُ على الزِّيَادَةِ التي تَرْجِعُ إلَى الصِّفَةِ وَهِيَ الْبَيْنُونَةُ فَيُحْمَلُ على الْوَاحِدَةِ الْبَائِنَةِ لِأَنَّهَا الْمُتَيَقَّنُ بها. وَلَوْ قال مِثْلَ عِظَمِ الْجَبَلِ أو قال مِثْلَ عِظَمِ كَذَا فَأَضَافَ ذلك إلَى صَغِيرٍ أو كَبِيرٍ فَهِيَ وَاحِدَةٌ بَائِنَةٌ وَإِنْ لم يُسَمِّ وَاحِدَةً وَإِنْ نَوَى ثَلَاثًا فَهُوَ ثَلَاثٌ لِأَنَّهُ نَصَّ على التَّشْبِيهِ بِالْجَبَلِ في الْعِظَمِ فَهَذَا يَقْتَضِي زِيَادَةً لَا مَحَالَةَ على ما يَقْتَضِيهِ الصَّرِيحُ ثُمَّ إنْ كان قد سَمَّى وَاحِدَةً تَعَيَّنَتْ الْوَاحِدَةُ الْبَائِنَةُ لِأَنَّ الزِّيَادَةَ فيها لَا تَكُونُ إلَّا بالبينونة [البينونة] وَإِنْ كان لم يُسَمِّ وَاحِدَةً احْتَمَلَ الزِّيَادَةَ في الصِّفَةِ وَهِيَ الْبَيْنُونَةُ بِوَاحِدَةٍ أو بِالثَّلَاثِ فَإِنْ نَوَى الثَّلَاثَ يَكُونُ ثَلَاثًا لِأَنَّهُ نَوَى ما يَحْتَمِلُهُ كَلَامُهُ وَإِنْ لم يَكُنْ له نِيَّةٌ يُحْمَلُ على الْوَاحِدَةِ لِكَوْنِهَا أَدْنَى وَالْأَدْنَى مُتَيَقَّنٌ بِهِ وفي الزِّيَادَةِ عليه شَكٌّ. وَلَوْ قال أَنْتِ طَالِقٌ مِثْلَ هذا وهذا وَهَذَا وَأَشَارَ بِثَلَاثِ أَصَابِعَ فَإِنْ نَوَى بِهِ ثَلَاثًا فَثَلَاثٌ وَإِنْ نَوَى وَاحِدَةً بَائِنَةً فَوَاحِدَةٌ بَائِنَةٌ لِأَنَّهُ شَبَّهَ الطَّلَاقَ بِمَا له عَدَدٌ فَيَحْتَمِلُ التَّشْبِيهَ من حَيْثُ الْعَدَدُ وَيَحْتَمِلُ التَّشْبِيهَ في الصِّفَةِ وَهِيَ الشِّدَّةُ فإذا نَوَى بِهِ الثَّلَاثَ صَحَّتْ نِيَّتُهُ لِأَنَّهُ نَوَى ما يَحْتَمِلُهُ لَفْظُهُ كما في قَوْلِهِ أَنْتِ طَالِقٌ كَأَلْفٍ وإذا نَوَى بِهِ الْوَاحِدَةَ كانت وَاحِدَةً لِأَنَّهُ أَرَادَ بِهِ التَّشْبِيهَ في الصِّفَةِ وَكَذَا إذَا لم يَكُنْ له نِيَّةٌ يُحْمَلُ على التَّشْبِيهِ من حَيْثُ الصِّفَةُ لِأَنَّهُ أَدْنَى وَاَللَّهُ عز وجل أَعْلَمُ.
وَأَمَّا الْكِنَايَةُ فَثَلَاثَةُ أَلْفَاظٍ من الْكِنَايَاتِ رواجه [رواجع] بِلَا خِلَافٍ وَهِيَ قَوْلُهُ اعْتَدِّي وَاسْتَبِرِي رَحِمَك وَأَنْتِ وَاحِدَةً أَمَّا قَوْلُهُ اعْتَدِّي فَلِمَا رُوِيَ عن أبي حَنِيفَةَ أَنَّهُ قال الْقِيَاسُ في قَوْلِهِ اعْتَدِّي أَنْ يَكُونَ بَائِنًا وَإِنَّمَا اتَّبَعْنَا الْأَثَرَ وَكَذَا قال أبو يُوسُفَ الْقِيَاسُ أَنْ يَكُونَ بَائِنًا وَإِنَّمَا تَرَكْنَا الْقِيَاسَ لِحَدِيثِ جَابِرٍ رضي اللَّهُ عنه أَنَّ رَسُولَ اللَّهِ صلى اللَّهُ عليه وسلم قال لِسَوْدَةِ بِنْتِ زَمْعَةَ رضي اللَّهُ عنها اعْتَدِّي فَنَاشَدَتْهُ أَنْ يُرَاجِعَهَا لِتَجْعَلَ يَوْمَهَا لِعَائِشَةَ رضي اللَّهُ عنها حتى تُحْشَرَ في جُمْلَةِ أَزْوَاجِهِ فَرَاجَعَهَا وَرَدَّ عليها يَوْمَهَا وَلِأَنَّ قَوْلَهُ اعْتَدِّي أَمْرٌ بِالِاعْتِدَادِ والإعتداد يَقْتَضِي سَابِقَةَ الطَّلَاقِ وَالْمُقْتَضَى يَثْبُتُ بِطَرِيقِ الضَّرُورَةِ فَيُتَقَدَّرُ بِقَدْرِ الضَّرُورَةِ وَالضَّرُورَةُ تَرْتَفِعُ بِالْأَقَلِّ وهو الْوَاحِدَةُ الرَّجْعِيَّةُ فَلَا يَثْبُتُ ما سِوَاهَا ثُمَّ قَوْلُهُ إعتدي إنَّمَا يُجْعَلُ مُقْتَضِيًا لِلطَّلَاقِ في الْمَدْخُولِ بها وَأَمَّا في غَيْرِ الْمَدْخُولِ بها فإنه يُجْعَلُ مُسْتَعَارًا من الطَّلَاقِ وَقَوْلُهُ اسْتَبْرِي رَحِمَك تَفْسِيرُ إعتدي لِأَنَّ الِاعْتِدَادَ شُرِعَ لِلِاسْتِبْرَاءِ فَيُفِيدُ ما يُفِيدُهُ قَوْلُهُ اعْتَدِّي. وَأَمَّا قَوْلُهُ أَنْتِ وَاحِدَةً فَلِأَنَّهُ لَمَّا نَوَى الطَّلَاقَ فَقَدْ جَعَلَ قَوْلَهُ وَاحِدَةً نَعْتًا لِمَصْدَرٍ مَحْذُوفٍ وهو الطَّلْقَةُ كَأَنَّهُ قال أَنْتِ طَالِقٌ طَلْقَةً وَاحِدَةً كما يُقَالُ أَعْطَيْتُهُ جَزِيلًا أن [أي] عَطَاءً جَزِيلًا وَاخْتُلِفَ في الْبَوَاقِي من الْكِنَايَاتِ فقال أَصْحَابُنَا رَحِمَهُمُ اللَّهُ إنَّهَا بَوَائِنُ وقال الشَّافِعِيُّ رَوَاجِعُ وَجْهُ قَوْلِهِ أَنَّ هذه الْأَلْفَاظَ كِنَايَاتُ الطَّلَاقِ فَكَانَتْ مَجَازًا عن الطَّلَاقِ أَلَا تَرَى أنها لَا تَعْمَلُ بِدُونِ نِيَّةِ الطَّلَاقِ فَكَانَ الْعَامِلُ هو الْحَقِيقَةُ وهو الْمُكَنَّى عنه لَا الْمَجَازُ الذي هو الْكِنَايَةُ وَلِهَذَا كانت الْأَلْفَاظُ الثَّلَاثَةُ رَوَاجِعَ فَكَذَا الْبَوَاقِي وَلَنَا أَنَّ الشَّرْعَ وَرَدَ بِهَذِهِ الْأَلْفَاظِ وَأَنَّهَا صَالِحَةٌ لِإِثْبَاتِ الْبَيْنُونَةِ وَالْمَحِلُّ قَابِلٌ لِلْبَيْنُونَةِ فإذا وُجِدَتْ من الْأَهْلِ ثَبَتَتْ الْبَيْنُونَةُ اسْتِدْلَالًا بِمَا قبل الدُّخُولِ وَلَا شَكَّ أَنَّ هذه الْأَلْفَاظَ صَالِحَةٌ لِإِثْبَاتِ الْبَيْنُونَةِ فإنه تَثْبُتُ الْبَيْنُونَةُ بها قبل الدُّخُولِ وَبَعْدَ انْقِضَاءِ الْعِدَّةِ وَيَثْبُتُ بِهِ قَبُولُ الْمَحِلِّ أَيْضًا لِأَنَّ ثُبُوتَ الْبَيْنُونَةِ في مَحِلٍّ لَا يَحْتَمِلُهَا مُحَالٌ وَالدَّلِيلُ على أَنَّ الشَّرْعَ وَرَدَ بِهَذِهِ الْأَلْفَاظِ قَوْله تَعَالَى: {فَإِمْسَاكٌ بِمَعْرُوفٍ أو تَسْرِيحٌ بِإِحْسَانٍ}وقَوْله تَعَالَى: {فَتَعَالَيْنَ أُمَتِّعْكُنَّ وَأُسَرِّحْكُنَّ سَرَاحًا جَمِيلًا}وَقَوْلُهُ: {فَأَمْسِكُوهُنَّ بِمَعْرُوفٍ أو فَارِقُوهُنَّ بِمَعْرُوفٍ}وَالتَّسْرِيحُ وَالْمُفَارَقَةُ من كِنَايَاتِ الطَّلَاقِ على ما بَيَّنَّا. وَرُوِيَ أَنَّ رَسُولَ اللَّهِ صلى اللَّهُ عليه وسلم تَزَوَّجَ إمرأة فَرَأَى في كَشْحِهَا بَيَاضًا فقال لها الْحَقِي بِأَهْلِكِ وَهَذَا من أَلْفَاظِ الْكِنَايَاتِ وإن رُكَانَةَ بن زَيْدٍ أو زَيْدَ بن رُكَانَةَ طَلَّقَ امْرَأَتَهُ البتة فَحَلَّفَهُ رسول اللَّهِ صلى اللَّهُ عليه وسلم ما أَرَادَ بها الثَّلَاثَ وَقَوْلُهُ البتة من الْكِنَايَاتِ فإذا ثَبَتَ أَنَّ هذا التَّصَرُّفَ مَشْرُوعٌ فَوُجُودُ التَّصَرُّفِ حَقِيقَةً بِوُجُودِ رُكْنِهِ وَوُجُودُهُ شَرْعًا بِصُدُورِهِ من أَهْلِهِ وَحُلُولِهِ في مَحِلِّهِ وقد وُجِدَ فَتَثْبُتُ الْبَيْنُونَةُ وإذا ثَبَتَتْ الْبَيْنُونَةُ فَقَدْ زَالَ الْمِلْكُ فَلَا يَمْلِكُ الرَّجْعَةَ وَلِأَنَّ شَرْعَ الطَّلَاقِ في الْأَصْلِ لِمَكَانِ الْمَصْلَحَةِ لِأَنَّ الزَّوْجَيْنِ قد تَخْتَلِفُ أَخْلَاقُهُمَا وَعِنْدَ اخْتِلَافِ الْأَخْلَاقِ لَا يبقي النِّكَاحُ مَصْلَحَةً لِأَنَّهُ لَا يبقي وَسِيلَةً إلَى الْمَقَاصِدِ فَتَنْقَلِبُ الْمَصْلَحَةُ إلَى الطَّلَاقِ لِيَصِلَ كُلُّ وَاحِدٍ مِنْهُمَا إلَى زَوْجٍ يُوَافِقُهُ فَيَسْتَوْفِي مَصَالِحَ النِّكَاحِ منه إلَّا أَنَّ الْمُخَالَفَةَ قد تَكُونُ من جِهَةِ الزَّوْجِ وقد تَكُونُ من جِهَةِ الْمَرْأَةِ فَالشَّرْعُ شَرَعَ الطَّلَاقَ وَفَوَّضَ طَرِيقَ دَفْعِ الْمُخَالَفَةِ وَالْإِعَادَةِ إلَى الْمُوَافَقَةِ إلَى الزَّوْجِ لِاخْتِصَاصِهِ بِكَمَالِ الْعَقْلِ وَالرَّأْيِ فَيَنْظُرُ في حَالِ نَفْسِهِ فَإِنْ كانت الْمُخَالَفَةُ من جِهَتِهِ يُطَلِّقُهَا طَلَاقًا وَاحِدًا رَجْعِيًّا أو ثَلَاثًا في ثَلَاثَةِ أَطْهَارٍ وَيُجَرِّبُ نَفْسَهُ في هذه الْمُدَّةِ فَإِنْ كان يُمْكِنُهُ الصَّبْرُ عنها وَلَا يَمِيلُ قَلْبُهُ إلَيْهَا يَتْرُكُهَا حتى تَنْقَضِيَ عِدَّتُهَا وَإِنْ كان لَا يُمْكِنُهُ الصَّبْرُ عنها رَاجَعَهَا وَإِنْ كانت الْمُخَالَفَةُ من جِهَتِهَا تَقَعُ الْحَاجَةُ إلَى أَنْ تَتُوبَ وَتَعُودَ إلَى الْمُوَافَقَةِ وَذَلِكَ لَا يَحْصُلُ بِالطَّلَاقِ الرَّجْعِيِّ لِأَنَّهَا إذَا عَلِمَتْ إن النِّكَاحَ بَيْنَهُمَا قَائِمٌ لَا تَتُوبُ فَيُحْتَاجُ إلَى الْإِبَانَةِ التي بها يَزُولُ الْحِلُّ وَالْمِلْكُ لِتَذُوقَ مَرَارَةَ الْفِرَاقِ فَتَعُودُ إلَى الْمُوَافَقَةِ عَسَى وإذا كانت الْمَصْلَحَةُ في الطَّلَاقِ بِهَذَيْنِ الطَّرِيقَيْنِ مَسَّتْ الْحَاجَةُ إلَى شَرْعِ الْإِبَانَةِ عَاجِلًا وَآجِلًا تَحْقِيقًا لِمَصَالِحِ النِّكَاحِ بِالْقَدْرِ الْمُمْكِنِ وَقَوْلُهُ هذه الْأَلْفَاظُ مَجَازٌ عن الطَّلَاقِ مَمْنُوعٌ بَلْ هِيَ حَقَائِقُ عامة [عاملة] بِأَنْفُسِهَا لِأَنَّهَا صَالِحَةٌ لِلْعَمَلِ بِأَنْفُسِهَا على ما بَيَّنَّا فَكَانَ وُقُوعُ الْبَيْنُونَةِ بها لَا بِالْمُكَنَّى عنه على أَنَّا إنْ سَلَّمْنَا أنها مَجَازٌ عن الطَّلَاقِ فَلَفْظُ الْمَجَازِ عَامِلٌ بِنَفْسِهِ أَيْضًا كَلَفْظِ الْحَقِيقَةِ فإن الْمَجَازَ أَحَدُ نَوْعَيْ الْكَلَامِ فَيَعْمَلُ بِنَفْسِهِ كَالْحَقِيقَةِ وَلِهَذَا قُلْنَا إنَّ لِلْمَجَازِ عُمُومًا كَالْحَقِيقَةِ إلَّا أَنَّهُ يُشْتَرَطُ النِّيَّةُ لِتَنَوُّعِ الْبَيْنُونَةِ وَالْحُرْمَةِ إلَى الْغَلِيظَةِ وَالْخَفِيفَةِ فَكَانَ الشَّرْطُ في الْحَقِيقَةِ نِيَّةَ التَّمْيِيزِ وَتَعْيِينَ أَحَدِ النَّوْعَيْنِ لَا نِيَّةَ الطَّلَاقِ وَاَللَّهُ تعالى أَعْلَمُ. وَيَسْتَوِي فِيمَا ذَكَرْنَا من الصَّرِيحِ وَالْكِنَايَةِ والرجعى وَالْبَائِنِ أَنْ يَكُونَ ذلك بِمُبَاشَرَةِ الزَّوْجِ بِنَفْسِهِ بِطَرِيقِ الْأَصَالَةِ أو بِغَيْرِهِ بِإِذْنِهِ أو أَمْرِهِ وَذَلِكَ نَوْعَانِ تَوْكِيلٌ وَتَفْوِيضٌ أَمَّا التَّفْوِيضُ فَنَحْوُ قَوْلِ الرَّجُلِ لِامْرَأَتِهِ أَمْرُكِ بِيَدِكِ وَقَوْلِهِ اخْتَارِي وَقَوْلِهِ أَنْتِ طَالِقٌ إنْ شِئْتِ وما يَجْرِي مَجْرَاهُ وَقَوْلِهِ طَلِّقِي نَفْسَكِ.
أَمَّا قَوْلُهُ أَمْرُك بِيَدِك فَالْكَلَامُ فيه يَقَعُ في مَوَاضِعَ في بَيَانِ صِفَةِ هذا التَّفْوِيضِ وهو جَعْلُ الْأَمْرِ بِالْيَدِ وفي بَيَانِ حُكْمِهِ وفي بَيَانِ شَرْطِ ثُبُوتِ الْحُكْمِ وفي بَيَانِ شَرْطِ بَقَائِهِ وما يَبْطُلُ بِهِ وما لَا يَبْطُلُ وفي بَيَانِ صِفَةِ الْحُكْمِ الثَّابِتِ وفي بَيَانِ ما يَصْلُحُ جَوَابَ الْأَمْرِ بِالْيَدِ من الْأَلْفَاظِ وَبَيَانُ حُكْمِهَا إذَا وجد [وجدت] أَمَّا بَيَانُ صِفَتِهِ فَهُوَ أَنَّهُ لَازِمٌ من جَانِبِ الزَّوْجِ حتى لَا يَمْلِكَ الرُّجُوعَ عنه وَلَا نهى الْمَرْأَةِ عَمَّا جُعِلَ إلَيْهَا وَلَا فَسْخَ ذلك لِأَنَّهُ مَلَّكَهَا الطَّلَاقَ وَمَنْ مَلَّكَ غَيْرَهُ شيئا فَقَدْ زَالَتْ وِلَايَتُهُ من الْمِلْكِ فَلَا يَمْلِكُ إبْطَالَهُ بِالرُّجُوعِ وَالنَّهْيِ وَالْفَسْخِ بِخِلَافِ الْبَيْعِ فإن الْإِيجَابَ من الْبَائِعِ ليس بِتَمْلِيكٍ بَلْ هو أَحَدُ رُكْنَيْ الْبَيْعِ فَاحْتُمِلَ الرُّجُوعُ عنه وَلِأَنَّ الطَّلَاقَ بَعْدَ وُجُودِهِ لَا يَحْتَمِلُ الرُّجُوعَ وَالْفَسْخَ فَكَذَا بَعْدَ إيجَابِهِ بِخِلَافِ الْبَيْعِ فإنه يَحْتَمِلُ الْفَسْخَ بَعْدَ تَمَامِهِ فَيَحْتَمِلُ الْفَسْخَ وَالرُّجُوعَ بَعْدَ إيجَابِهِ أَيْضًا وَلِأَنَّ هذا النَّوْعَ من التَّمْلِيكِ فيه مَعْنَى التَّعْلِيقِ فَلَا يُحْتَمَلُ الرُّجُوعُ عنه وَالْفَسْخُ كَسَائِرِ التَّعْلِيقَاتِ الْمُطْلَقَةِ بِخِلَافِ الْبَيْعِ فإنه ليس فيه مَعْنَى التَّعْلِيقِ رَأْسًا وَكَذَلِكَ لو قام هو عن الْمَجْلِسِ لَا يَبْطُلُ الْجَعْلُ لِأَنَّ قِيَامَهُ دَلِيلُ الْإِبْطَالِ لِكَوْنِهِ دَلِيلَ الْإِعْرَاضِ فإذا لم يَبْطُلْ بِصَرِيحِ إبْطَالِهِ كَيْفَ يَبْطُلُ بِدَلِيلِ الْإِبْطَالِ بِخِلَافِ الْبَيْعِ إذَا أَوْجَبَ الْبَائِعُ ثُمَّ قام قبل قَبُولِ الْمُشْتَرِي أَنَّهُ يَبْطُلُ الْإِيجَابُ لِأَنَّ الْبَيْعَ يَبْطُلُ بِصَرِيحِ الْإِبْطَالِ فَجَازَ أَنْ يَبْطُلَ بِدَلِيلِ الْإِبْطَالِ وَأَمَّا من جَانِبِ الْمَرْأَةِ فإنه غَيْرُ لَازِمٍ لِأَنَّهُ لَمَّا جَعَلَ الْأَمْرَ بِيَدِهَا فَقَدْ خَيَّرَهَا بين اخْتِيَارهَا نَفْسَهَا في التَّطْلِيقِ وَبَيْنَ اخْتِيَارهَا زَوْجَهَا وَالتَّخْيِيرُ ينافي [بنا] اللُّزُومَ. وَأَمَّا حُكْمُهُ فَهُوَ صَيْرُورَةُ الْأَمْرِ بِيَدِهَا في الطَّلَاقِ لِأَنَّهُ جَعَلَ الْأَمْرَ بِيَدِهَا في الطَّلَاقِ وهو من أَهْلِ الْجَعْلِ وَالْمَحِلُّ قَابِلٌ لِلْجَعْلِ فَيَصِيرُ الْأَمْرُ بِيَدِهَا وَأَمَّا شَرْطُ صَيْرُورَةِ الْأَمْرِ بِيَدِهَا فَشَيْئَانِ أَحَدُهُمَا نِيَّةُ الزَّوْجِ الطَّلَاقَ لِأَنَّهُ من كِنَايَاتِ الطَّلَاقِ فَلَا يَصِحُّ من غَيْرِ نِيَّةِ الطَّلَاقِ أَلَا تَرَى أَنَّهُ لَا يَمْلِكُ إيقَاعَهُ بِنَفْسِهِ من غَيْرِ نِيَّةِ الطَّلَاقِ فَكَيْفَ يَمْلِكُ تَفْوِيضَهُ إلَى غَيْرِهِ من غَيْرِ نِيَّةِ الطَّلَاقِ حتى لو قال الزَّوْجُ ما أَرَدْتُ بِهِ الطَّلَاقَ يُصَدَّقُ وَلَا يَصِيرُ الْأَمْرُ بِيَدِهَا لِأَنَّ هذا التَّصَرُّفَ يَحْتَمِلُ الطَّلَاقَ وَيَحْتَمِلُ غَيْرَهُ إلَّا إذَا كان الْحَالُ حَالَ الْغَضَبِ وَالْخُصُومَةِ أو حَالَ مُذَاكَرَةِ الطَّلَاقِ فَلَا يُصَدَّقُ في الْقَضَاءِ لِأَنَّ الْحَالَ تَدُلُّ على إرَادَةِ الطَّلَاقِ ظَاهِرًا فَلَا يُصَدَّقُ في الْعُدُولِ عن الظَّاهِرِ فَإِنْ ادَّعَتْ الْمَرْأَةُ أَنَّهُ أَرَادَ بِهِ الطَّلَاقَ أو ادَّعَتْ أَنَّ ذلك كان في حَالِ الْغَضَبِ أو في حَالِ ذِكْرِ الطَّلَاقِ وهو يُنْكِرُ فَالْقَوْلُ قَوْلُهُ مع يَمِينِهِ لِأَنَّهَا تَدَّعِي عليه الطَّلَاقَ وهو يُنْكِرُ فَإِنْ أَقَامَتْ الْبَيِّنَةَ أَنَّ ذلك كان في حَالِ الْغَضَبِ أو ذِكْرِ الطَّلَاقِ قُبِلَتْ بَيِّنَتُهَا لِأَنَّ حَالَ الْغَضَبِ وَذِكْرَ الطَّلَاقِ يَقِفُ الشُّهُودَ عليها وَيَتَعَلَّقُ عِلْمُهُمْ بها فَكَانَتْ شَهَادَتُهُمْ عن عِلْمٍ بِالْمَشْهُودِ بِهِ فَتُقْبَلُ وَلَوْ أَقَامَتْ البنية [البينة] على أَنَّهُ نَوَى الطَّلَاقَ لَا تُقْبَلُ بَيِّنَتُهَا لِأَنَّهُ لَا وُقُوفَ لِلشُّهُودِ على النِّيَّةِ لِأَنَّهُ أَمْرٌ في الْقَلْبِ فَكَانَتْ هذه شَهَادَةً لَا عن عِلْمٍ بِالْمَشْهُودِ بِهِ فلم تُقْبَلْ وَالثَّانِي عِلْمُ الْمَرْأَةِ بِجَعْلِ الْأَمْرِ بِيَدِهَا وَهِيَ غَائِبَةٌ أو حَاضِرَةٌ لم تَسْمَعْ لَا يَصِيرُ الْأَمْرُ بِيَدِهَا ما لم تَسْمَعْ أو يَبْلُغْهَا الْخَبَرُ لِأَنَّ مَعْنَى صَيْرُورَةِ الْأَمْرِ بِيَدِهَا في الطَّلَاقِ هو ثُبُوتُ الْخِيَارِ لها وهو اخْتِيَارُهَا نَفْسَهَا بِالطَّلَاقِ أو زَوْجَهَا بِتَرْكِ الطَّلَاقِ اخْتِيَارَ الْإِيثَارِ وَهَذَا لَا يَتَحَقَّقُ إلَّا بَعْدَ الْعِلْمِ بِالتَّخْيِيرِ فإذا عَلِمَتْ بِالتَّخْيِيرِ صَارَ الْأَمْرُ بِيَدِهَا في أَيِّ وَقْتٍ عَلِمَتْ إنْ كان التَّفْوِيضُ مُطْلَقًا عن الْوَقْتِ وَإِنْ كان مُؤَقَّتًا بِوَقْتٍ وَعَلِمَتْ في شَيْءٍ من الْوَقْتِ صَارَ الْأَمْرُ بِيَدِهَا. فَأَمَّا إذَا عَلِمَتْ بَعْدَ مُضِيِّ الْوَقْتِ كُلِّهِ لَا يَصِيرُ الْأَمْرُ بِيَدِهَا بهذا التَّفْوِيضِ أَبَدًا لِأَنَّ ذلك عِلْمٌ لَا يَنْفَعُ لِأَنَّ التَّفْوِيضَ الْمُؤَقَّتَ بِوَقْتٍ يَنْتَهِي عِنْدَ انْتِهَاءِ الْوَقْتِ فَلَوْ صَارَ الْأَمْرُ بِيَدِهَا بَعْدَ ذلك لَصَارَ من غَيْرِ تَفْوِيضِهِ وَهَذَا لَا يَجُوزُ وَأَمَّا بَيَانُ شَرْطِ بَقَاءِ هذا الْحُكْمِ وما يَبْطُلُ بِهِ وما لَا يَبْطُلُ فَلَنْ يُمْكِنَ مَعْرِفَتُهُ إلَّا بَعْدَ مَعْرِفَةِ أَقْسَامِ الْأَمْرِ بِالْيَدِ فَنَقُولُ وَبِاَللَّهِ التَّوْفِيقُ جَعْلُ الْأَمْرِ بِالْيَدِ لَا يَخْلُو إمَّا أَنْ يَكُونَ مُنَجَّزًا وَإِمَّا أَنْ يَكُونَ مُعَلَّقًا بِشَرْطٍ وَإِمَّا أَنْ يَكُونَ مُضَافًا إلَى وَقْتٍ وَالْمُنَجَّزُ لَا يَخْلُو إمَّا أَنْ يَكُونَ مُطْلَقًا وَإِمَّا أَنْ يَكُونَ مُؤَقَّتًا فَإِنْ كان مُطْلَقًا بِأَنْ قال أَمْرُكِ بِيَدِك فَشَرْطُ بَقَاءِ حُكْمِهِ بَقَاءُ الْمَجْلِسِ وهو مَجْلِسُ عِلْمِهَا بِالتَّفْوِيضِ فما دَامَتْ في مَجْلِسِهَا فَالْأَمْرُ بِيَدِهَا لِأَنَّ جَعْلَ الْأَمْرِ بِيَدِهَا تَمْلِيكُ الطَّلَاقِ منها لِأَنَّهُ جَعَلَ أَمَرَهَا في الطَّلَاقِ بِيَدِهَا تَتَصَرَّفُ فيه بِرَأْيِهَا وَتَدْبِيرِهَا كَيْفَ شَاءَتْ بِمَشِيئَةِ الْإِيثَارِ وَهَذَا مَعْنَى الْمَالِكِيَّةِ وهو التَّصَرُّفُ عن مَشِيئَةِ الْإِيثَارِ وَالزَّوْجُ يَمْلِكُ التَّطْلِيقَ بِنَفْسِهِ فَيَمْلِكُ تَمْلِيكَهُ من غَيْرِهِ فَصَارَتْ مَالِكَةً لِلطَّلَاقِ بِتَمْلِيكِ الزَّوْجِ وَجَوَابُ التَّمْلِيكِ مُقَيَّدٌ بِالْمَجْلِسِ لِأَنَّ الزَّوْجَ يَمْلِكُ الْخِطَابَ وَكُلُّ مَخْلُوقٍ خَاطَبَ غَيْرَهُ يَطْلُبُ جَوَابَ خِطَابِهِ في الْمَجْلِسِ فَيَتَقَيَّدُ جَوَابُ التَّمْلِيكِ بِالْمَجْلِسِ كما في قَبُولِ الْبَيْعِ وَغَيْرِهِ وَسَوَاءٌ قَصُرَ الْمَجْلِسُ أو طَالَ لِأَنَّ سَاعَاتِ الْمَجْلِسِ جُعِلَتْ كَسَاعَةٍ وَاحِدَةٍ لِأَنَّ اعْتِبَارَ الْمَجْلِسِ لِلْحَاجَةِ إلَى التَّأَمُّلِ وَالتَّفَكُّرِ وَذَلِكَ يَخْتَلِفُ بِاخْتِلَافِ الْأَشْخَاصِ وَالْأَحْوَالِ وَالْأَوْقَاتِ وَلَا ضَابِطَ له إلَّا الْمَجْلِسَ فَقُدِّرَ بِالْمَجْلِسِ وَلِهَذَا جَعَلَهُ الصَّحَابَةُ رضي اللَّهُ عَنْهُمْ لَلْمُخَيَّرَةِ فيبقي الْأَمْرُ في يَدِهَا ما بَقِيَ الْمَجْلِسُ فَإِنْ قَامَتْ عن مَجْلِسِهَا بَطَلَ لِأَنَّ الزَّوْجَ يَطْلُبُ جَوَابَ التَّمْلِيكِ في الْمَجْلِسِ وَالْقِيَامُ عن الْمَجْلِسِ دَلِيلُ الْإِعْرَاضِ عن جَوَابِ التَّمْلِيكِ فَكَانَ رَدًّا لِلتَّمْلِيكِ دَلَالَةً وَلِأَنَّ الْمَالِكَ لَمَّا طَلَبَ الْجَوَابَ في الْمَجْلِسِ لَا يَمْلِكُ الْجَوَابَ في غَيْرِ الْمَجْلِسِ لِأَنَّهُ ما مَلَّكَهَا في غَيْرِهِ وقد اخْتَلَفَ الْمَجْلِسُ بِالْقِيَامِ فلم يَكُنْ في بَقَاءِ الْأَمْرِ فَائِدَةٌ فَيَبْطُلُ وَكَذَلِكَ إذَا وُجِدَ منها قَوْلٌ أو فِعْلٌ يَدُلُّ على إعْرَاضِهَا عن الْجَوَابِ بِأَنْ دَعَتْ بِطَعَامٍ لِتَأْكُلَ أو أَمَرَتْ وَكِيلَهَا بِشَيْءٍ أو خَاطَبَتْ إنْسَانًا بِبَيْعٍ أو شِرَاءٍ أو كانت قَائِمَةً فَرَكِبَتْ أو رَاكِبَةً فانتلقت [فانتقلت] إلَى دَابَّةٍ أُخْرَى أو وَاقِفَةً فَسَارَتْ أو امْتَشَطَتْ أو اغْتَسَلَتْ أو مَكَّنَتْ زَوْجَهَا حتى وَطِئَهَا أو اشْتَغَلَتْ بِالنَّوْمِ لِأَنَّ هذا كُلَّهُ دَلِيلُ الْإِعْرَاضِ عن الْجَوَابِ. وَإِنْ كانت سَائِرَةً أو كَانَا في مَحْمَلٍ وَاحِدٍ فَإِنْ أَجَابَتْ على الْفَوْرِ وَإِلَّا بَطَلَ خِيَارُهَا لِأَنَّ سَيْرَ الدَّابَّةِ بِتَسْيِيرِ الرَّاكِبِ وَإِنْ كانت سَائِرَةً فَوَقَفَتْ الدَّابَّةُ فَهِيَ على خِيَارِهَا وَإِنْ كانت في سَفِينَةٍ فَسَارَتْ لَا يَبْطُلُ خِيَارُهَا لِأَنَّ حُكْمَهَا حُكْمُ الْبَيْتِ وَكُلُّ ما يَبْطُلُ بِهِ الْخِيَارُ إذَا كانت في الْبَيْتِ البت يَبْطُلُ بِهِ إذَا كانت في السَّفِينَةِ وما لَا فَلَا فَإِنْ كانت قَائِمَةً فَقَعَدَتْ لم يَبْطُلْ خِيَارُهَا بِخِلَافِ ما إذَا كانت قَاعِدَةً فَقَامَتْ لِأَنَّ الْقُعُودَ يَجْمَعُ الرَّأْيَ وَالْقِيَامَ يُفَرِّقُهُ فَكَانَ الْقُعُودُ دَلِيلَ إرَادَةِ التَّأَمُّلِ وَالْقِيَامُ دَلِيلَ إرَادَة الْإِعْرَاضِ وَكَذَلِكَ إنْ كانت مُتَّكِئَةً فَقَعَدَتْ لم يَبْطُلْ خِيَارُهَا لِمَا قُلْنَا فَإِنْ كانت قَاعِدَةً فَاتَّكَأَتْ فَفِيهِ رِوَايَتَانِ في رِوَايَةً يَبْطُلُ خِيَارُهَا لِأَنَّ المتكىء [المتكئ] يَقْعُدُ لِيَجْتَمِعَ رَأْيُهُ فَأَمَّا الْقَاعِدُ فَلَا يتكىء [يتكئ] لِذَلِكَ وفي رِوَايَةٍ أُخْرَى لَا يَبْطُلُ لِأَنَّ الْمُتَأَمِّلَ يَنْتَقِلُ من الِاتِّكَاءِ إلَى الْقُعُودِ مِرَّةً وَمِنْ الْقُعُودِ إلَى الإتكاء أُخْرَى وقد صَارَ الْأَمْرُ بِيَدِهَا بِيَقِينٍ فَلَا يَخْرُجُ بِالشَّكِّ فَلَوْ كانت قَاعِدَةً فَاضْطَجَعَتْ يَبْطُلُ خِيَارُهَا في قَوْلِ زُفَرَ. وَعَنْ أبي يُوسُفَ رِوَايَتَانِ رَوَى الْحَسَنُ بن زِيَادٍ عنه أَنَّهُ لَا يَبْطُلُ خِيَارُهَا وَرَوَى الْحَسَنُ بن أبي مَالِكٍ عنه أَنَّهُ يَبْطُلُ كما قال زُفَرُ وَإِنْ ابْتَدَأَتْ الصَّلَاةَ بَطَلَ خِيَارُهَا فَرْضًا كانت الصَّلَاةُ أو نَفْلًا أو وَاجِبَةً لِأَنَّ اشْتِغَالَهَا بِالصَّلَاةِ إعْرَاضٌ عن الْجَوَابِ فَإِنْ خَيَّرَهَا وَهِيَ في الصَّلَاةِ فَأَتَمَّتْهَا فَإِنْ كانت في صَلَاةِ الْفَرْضِ أو الْوَاجِبِ كَالْوِتْرِ لَا يَبْطُلُ خِيَارُهَا حتى تَخْرُجَ من الصَّلَاةِ لِأَنَّهَا مُضْطَرَّةٌ في الْإِتْمَامِ لِكَوْنِهَا مَمْنُوعَةً من الْإِفْسَادِ فَلَا يَكُونُ الْإِتْمَامُ دَلِيلَ الْإِعْرَاضِ وَإِنْ كانت في صَلَاةِ التَّطَوُّعِ فَإِنْ سَلَّمَتْ على رَأْسِ الرَّكْعَتَيْنِ فَهِيَ على خِيَارِهَا وَإِنْ زَادَتْ على رَكْعَتَيْنِ بَطَلَ خِيَارُهَا لِأَنَّ كُلَّ شَفْعٍ من التَّطَوُّعِ صَلَاةٌ على حِدَةٍ فَكَانَتْ الزِّيَادَةُ على الشَّفْعِ بِمَنْزِلَةِ الشرع [الشروع] في الصَّلَاةِ ابْتِدَاءً وَلَوْ أُخْبِرَتْ وَهِيَ في الْأَرْبَعِ قبل الظُّهْرِ فَأَتَمَّتْ ولم تُسَلِّمْ على رَأْسِ الرَّكْعَتَيْنِ اخْتَلَفَ فيه الْمَشَايِخُ قال بَعْضُهُمْ يَبْطُلُ خِيَارُهَا كما في التَّطَوُّعِ الْمُطْلَقِ وقال بَعْضُهُمْ لَا يَبْطُلُ وهو الصَّحِيحُ لِأَنَّهَا في مَعْنَى الْوَاجِبِ فَكَانَتْ من أَوَّلِهَا إلَى آخِرِهَا صَلَاةً وَاحِدَةً وَلَوْ أَخَذَ الزَّوْجُ بِيَدِهَا فَأَقَامَهَا بَطَلَ خِيَارُهَا لِأَنَّهَا إنْ قَدَرَتْ على الإمتناع فلم تَمْتَنِعْ فَقَدْ قَامَتْ بِاخْتِيَارِهَا وهو دَلِيلُ الْإِعْرَاضِ وَإِنْ لم تَقْدِرْ على أَنْ تَمْتَنِعَ تَقْدِرُ على أَنْ تَقُولَ قبل الْإِقَامَةِ اخْتَرْتُ نَفْسِي فلما لم تَقُلْ فَقَدْ أَعْرَضَتْ عن الْجَوَابِ فَإِنْ أَكَلَتْ طَعَامًا يَسِيرًا من غَيْرِ أَنْ ندعو [تدعو] بِطَعَامٍ أو شَرِبَتْ شَرَابًا قَلِيلًا أو نَامَتْ قَاعِدَةً أو لَبِسَتْ ثَوْبًا وَهِيَ قَائِمَةٌ أو لَبِسَتْ وَهِيَ قَاعِدَةٌ ولم تَقُمْ لم يَبْطُلْ خِيَارُهَا لِأَنَّهَا تَحْتَاجُ إلَى إحْضَارِ الشُّهُودِ فَتَحْتَاجُ إلَى اللُّبْسِ لِتَسْتَتِرَ بِهِ فَكَانَ ذلك من ضَرُورَاتِ الْخِيَارِ فَلَا يَبْطُلُ بِهِ وَالْأَكْلُ الْيَسِيرُ لَا يَدُلُّ على الْإِعْرَاضِ وَكَذَا النَّوْمُ قَاعِدَةً من غَيْرِ أَنْ تَشْتَغِلَ بِهِ وَكَذَا إذَا سَبَّحَتْ أو قَرَأَتْ شيئا قَلِيلًا لم يَبْطُلْ خِيَارُهَا لِأَنَّ التَّسْبِيحَ الْيَسِيرَ وَالْقِرَاءَةَ الْقَلِيلَةَ لَا يَدُلَّانِ على الْإِعْرَاضِ وَلِأَنَّ الْإِنْسَانِ لَا يَخْلُو عن التَّسْبِيحِ الْقَلِيلِ وَالْقِرَاءَةِ الْقَلِيلَةِ فَلَوْ جُعِلَ ذلك مُبْطِلًا لِلْخِيَارِ لَانْسَدَّ باب التَّفْوِيضِ وَإِنْ طَالَ ذلك بَطَلَ الْخِيَارُ لِأَنَّ الطَّوِيلَ منه يَكُونُ دَلِيلَ الأعراض وَلَا يَكْثُرُ. وُجُودُهُ فَإِنْ قالت اُدْعُ لي شُهُودًا أُشْهِدُهُمْ لم يَبْطُلْ خِيَارُهَا لِأَنَّهَا تَحْتَاجُ إلَى ذلك صِيَانَةً لِاخْتِيَارِهَا عن الْجُحُودِ فَكَانَ ذلك من ضَرُورَاتِ الْخِيَارِ فلم يَكُنْ دَلِيلَ الْإِعْرَاضِ وَكَذَلِكَ إذَا قالت اُدْعُ لي أبي أَسْتَشِيرُهُ لِأَنَّ هذا أَمْرٌ يَحْتَاجُ إلَى الْمَشُورَةِ وقد رُوِيَ أَنَّ رَسُولَ اللَّهِ لَمَّا أَرَادَ تَخْيِيرَ نِسَائِهِ قال لِعَائِشَةَ رضي اللَّهُ عنها إنِّي أَعْرِضُ عَلَيْك أَمْرًا فَلَا تَعْجَلِي حتى تَسْتَشِيرِي أَبَوَيْك وَلَوْ كانت الْمَشُورَةُ مُبْطِلَةً لِلْخِيَارِ لَمَا نَدَبَهَا إلَى الْمَشُورَةِ وَلَوْ قالت اخْتَرْتُك أو قالت لَا أَخْتَارُ الطَّلَاقَ خَرَجَ الْأَمْرُ من يَدِهَا لِأَنَّهَا صَرَّحَتْ بِرَدِّ التَّمْلِيكِ وأنه يَبْطُلُ بِدَلَالَةِ الرَّدِّ فَبِالصَّرِيحِ أَوْلَى وَسَوَاءٌ كانت التَّمْلِيكُ بِكَلِمَةِ كُلَّمَا أو بِدُونِهَا بِأَنْ قال لها أَمْرُك بِيَدِك كُلَّمَا شِئْت لِمَا ذَكَرْنَا أَنَّ اخْتِيَارَهَا زَوْجَهَا رَدُّ للتمليك [التمليك] فَيَرْتَدُّ ما جُعِلَ إلَيْهَا في جَمِيعِ الْأَوْقَاتِ هذا إذَا كان التَّفْوِيضُ مُطْلَقًا عن الْوَقْتِ فَأَمَّا إذَا كان مؤقتا فَإِنْ أَطْلَقَ الْوَقْتَ بِأَنْ قال أَمْرُكِ بِيَدِكِ إذَا شِئْتِ أو إذَا ما شِئْتِ أو مَتَى ما شِئْتِ أو حَيْثُمَا شِئْتِ فَلَهَا الْخِيَارُ في الْمَجْلِسِ وَغَيْرِ الْمَجْلِسِ وَلَا يَتَقَيَّدُ بِالْمَجْلِسِ حتى لو رَدَّتْ الْأَمْرَ لم يَكُنْ رَدًّا وَلَوْ قَامَتْ من مَجْلِسِهَا أو أَخَذَتْ في عَمَلٍ آخَرَ أو كَلَامٍ آخَرَ فَلَهَا أَنْ تُطَلِّقَ نَفْسَهَا لِأَنَّهُ ما مَلَّكَهَا الطَّلَاقَ مُطْلَقًا لِيَكُونَ طَالِبًا جَوَابَهَا في الْمَجْلِسِ بَلْ مَلَّكَهَا في أَيِّ وَقْتٍ شَاءَتْ فَلَهَا أَنْ تُطَلِّقَ نَفْسَهَا في أَيِّ وَقْتٍ شَاءَتْ إلَّا أنها لَا تَمْلِكُ أَنْ تُطَلِّقَ نَفْسَهَا إلَّا مَرَّةً وَاحِدَةً لِمَا نَذْكُرُ فَإِنْ وَقَّتَهُ بِوَقْتٍ خَاصٍّ بِأَنْ قال أَمْرُكِ بِيَدِكِ يَوْمًا أو شَهْرًا أو سَنَةً أو قال الْيَوْمَ أو الشَّهْرَ أو السَّنَةَ أو قال هذا الْيَوْمَ أو هذا الشَّهْرَ أو هذه السَّنَةَ لَا يَتَقَيَّدُ بِالْمَجْلِسِ وَلَهَا الْأَمْرُ في الْوَقْتِ كُلِّهِ تَخْتَارُ نَفْسَهَا فِيمَا شَاءَتْ منه. وَلَوْ قَامَتْ من مَجْلِسِهَا أو تَشَاغَلَتْ بِغَيْرِ الْجَوَابِ لَا يَبْطُلُ خِيَارُهَا ما بَقِيَ الْوَقْتُ بِلَا خِلَافٍ لِأَنَّهُ فَوَّضَ الْأَمْرَ إلَيْهَا في جَمِيعِ الْوَقْتِ الْمَذْكُورِ فَيَبْقَى ما بَقِيَ الْوَقْتُ وَلِأَنَّهُ لو بَطَلَ الْأَمْرُ بِإِعْرَاضِهَا لم يَكُنْ لِلتَّوْقِيتِ فَائِدَةٌ وكان الْوَقْتُ وَغَيْرُ الْوَقْتِ سَوَاءً غير أَنَّهُ إنْ ذَكَرَ الْيَوْمَ أو الشَّهْرَ أو السَّنَةَ مُنْكِرًا فَلَهَا الْأَمْرُ من السَّاعَةِ التي تَكَلَّمَ فيها إلَى مِثْلِهَا من الْغَدِ وَالشَّهْرِ وَالسَّنَةِ لِأَنَّ ذلك يَقَعُ على يَوْمٍ تَامٍّ وَشَهْرٍ تَامٍّ وَسَنَةٍ تَامَّةٍ وَلَا يَتِمُّ إلَّا بِمَا قُلْنَا وَيَكُونُ الشَّهْرُ هَهُنَا بِالْأَيَّامِ لِأَنَّ التَّفْوِيضَ إذَا وُجِدَ في بَعْضِ الشَّهْرِ لَا يُمْكِنُ اعْتِبَارُ الْأَهِلَّةِ فَيُعْتَبَرُ بِالْأَيَّامِ وَإِنْ ذَكَرَ ذلك مُعَرَّفًا فَلَهَا الْخِيَارُ في بَقِيَّةِ الْيَوْمِ وفي بَقِيَّةِ الشَّهْرِ وفي بَقِيَّةِ السَّنَةِ لِأَنَّ الْمُعَرَّفَ منه يَقَعُ على الْبَاقِي وَيُعْتَبَرُ الشَّهْرُ هَهُنَا بِالْهِلَالِ لِأَنَّ الْأَصْلَ في الشَّهْرِ هو الْهِلَالُ وَالْعُدُولُ عنه إلَى غَيْرِهِ لِمَكَانِ الضَّرُورَةِ وَلَا ضَرُورَةَ هَهُنَا وَلَوْ اخْتَارَتْ نَفْسَهَا في الْوَقْتِ مَرَّةً ليس لها أَنْ تَخْتَارَ مَرَّةً أُخْرَى لِأَنَّ اللَّفْظَ يَقْتَضِي الْوَقْتَ وَلَا يَقْتَضِي التَّكْرَارَ وَلَوْ قالت اخْتَرْت زَوْجِي أو قالت لَا أَخْتَارُ الطَّلَاقَ ذُكِرَ في بَعْضِ الْمَوَاضِعِ أَنَّ على قَوْلِ أبي حَنِيفَةَ وَمُحَمَّدٍ يَخْرُجُ الْأَمْرُ من يَدِهَا في جَمِيعِ الْوَقْتِ حتى لَا تَمْلِكَ أَنْ تَخْتَارَ نَفْسَهَا بَعْدَ ذلك وَإِنْ بَقِيَ الْوَقْتُ وَعِنْدَ أبي يُوسُفُ يَبْطُلُ خِيَارُهَا في ذلك الْمَجْلِسِ وَلَا يَبْطُلُ في مَجْلِسٍ آخَرَ وَذُكِرَ في بَعْضِهَا الإختلاف على الْعَكْسِ من ذلك. وَجْهُ قَوْلِ من قال إنَّهُ لَا يَخْرُجُ الْأَمْرُ من يَدِهَا أَنَّهُ جَعَلَ الْأَمْرَ بِيَدِهَا في جَمِيعِ الْوَقْتِ فَإِعْرَاضُهَا في بَعْضِ الْوَقْتِ لَا يُبْطِلُ خِيَارَهَا في الْجَمِيعِ كما إذَا قَامَتْ من مَجْلِسِهَا أو اشْتَغَلَتْ بِأَمْرٍ يَدُلُّ على الْإِعْرَاضِ وَجْهُ قَوْلِ من يقول إنَّهُ يَخْرُجُ الْأَمْرُ من يَدِهَا أَنَّ قَوْلَهَا اخْتَرْتُ زَوْجِي رَدٌّ لِلتَّمْلِيكِ وَالتَّمْلِيكُ تَمْلِيكٌ وَاحِدٌ فَيَبْطُلُ بِرَدٍّ وَاحِدٍ كَتَمْلِيكِ الْبَيْعِ بِخِلَافِ الْقِيَامِ عن الْمَجْلِسِ لِأَنَّهُ ليس بِرَدٍّ حَقِيقَةً بَلْ هو امْتِنَاعٌ من الْجَوَابِ إلَّا أَنَّهُ جُعِلَ رَدًّا في التَّفْوِيضِ الْمُطْلَقِ من الْوَقْتِ ضَرُورَةَ إن الزَّوْجَ طَلَبَ الْجَوَابَ في الْمَجْلِسِ وَالْمَجْلِسُ يَبْطُلُ بِالْقِيَامِ فَلَوْ بَقِيَ الْأَمْرُ بَقِيَ خَالِيًا عن الْفَائِدَةِ فَبَطَلَ ضَرُورَةُ عَدَمِ الْفَائِدَةِ في الْبَقَاءِ وَهَذِهِ الضَّرُورَةُ مُنْعَدِمَةٌ هَهُنَا لِأَنَّ الزَّوْجَ طَلَبَ منها الْجَوَابَ في جَمِيعِ الْوَقْتِ لَا في الْمَجْلِسِ فَكَانَ في بَقَاءِ الْأَمْرِ بَعْدَ الْقِيَامِ عن الْمَجْلِسِ فَائِدَةٌ فَيَبْقَى وَلِأَنَّ الزَّوْجَ خَيَّرَهَا بين إن تَخْتَارَ نَفْسَهَا وَبَيْنَ أَنْ تَخْتَارَ زَوْجَهَا وَلَوْ اخْتَارَتْ نَفْسَهَا يَبْطُلُ خِيَارُهَا في جَمِيعِ الْمُدَّةِ فَكَذَا إذَا اخْتَارَتْ زَوْجَهَا وَرَوَى ابن سِمَاعَةَ عن أبي يُوسُفَ أَنَّهُ إذَا قال أَمْرُكِ بِيَدِك هذا الْيَوْمَ كان على مَجْلِسِهَا لِأَنَّ في الْفصل الْأَوَّلِ جَعَلَ الْيَوْمَ كُلَّهُ ظَرْفًا لِلْأَمْرِ بِالْيَدِ كما لو قال لِلَّهِ عَلَيَّ أَنْ أَصُومَ عُمْرِي أَنَّهُ يَلْزَمُهُ صَوْمُ جَمِيعِ عُمْرِهِ لِأَنَّهُ جَعَلَ عُمْرَهُ ظَرْفًا لِلصَّوْمِ فإذا صَارَ الْيَوْمُ كُلُّهُ ظَرْفًا لِلْأَمْرِ بِالْيَدِ فَلَا يَتَقَيَّدُ بِالْمَجْلِسِ وفي الْفصل الثَّانِي جُعِلَ جزأ من الْيَوْمِ ظَرْفًا كما لو قال لِلَّهِ عَلَيَّ أَنْ أَصُومَ في عُمْرِي أَنَّهُ لَا يَلْزَمُهُ إلَّا صَوْمُ يَوْمٍ وَاحِدٍ لِأَنَّهُ جَعَلَ جزأ من عُمْرِهِ ظَرْفًا لِلصَّوْمِ وإذا صَارَ جزأ من الْيَوْمِ ظَرْفًا لِلْأَمْرِ وَلَيْسَ جُزْءٌ أَوْلَى من جُزْءٍ فَيَخْتَصُّ بِالْمَجْلِسِ وَلَوْ قال أَمْرُكِ بِيَدِك إلَى رَأْسِ الشَّهْرِ صَارَ الْأَمْرُ بِيَدِهَا إلَى رَأْسِ الشَّهْرِ وَلَا يَبْطُلُ بِالْقِيَامِ عن الْمَجْلِسِ والإشتغال بِتَرْكِ الْجَوَابِ وَهَلْ يَبْطُلُ بِاخْتِيَارِهَا زَوْجَهَا فَهُوَ على الإختلاف الذي ذَكَرْنَا. وَأَمَّا التَّفْوِيضُ الْمُعَلَّقُ بِشَرْطٍ فَلَا يَخْلُو من أَحَدِ وَجْهَيْنِ إمَّا إن أَنْ يَكُونَ مُطْلَقًا عن الْوَقْتِ وَإِمَّا إن يَكُونَ مُؤَقَّتًا فَإِنْ مُطْلَقًا بِأَنْ قال إذَا قَدِمَ فُلَانٌ فَأَمْرُكِ بِيَدِك فَقَدِمَ فُلَانٌ فَالْأَمْرُ بِيَدِهَا إذَا عَلِمَتْ في مَجْلِسِهَا الذي يَقْدَمُ فيه فُلَانٌ لِأَنَّ الْمُعَلَّقَ بِشَرْطٍ كَالْمُنَجَّزِ عِنْدَ الشَّرْطِ فَيَصِيرُ قَائِلًا عِنْدَ الْقُدُومِ أَمْرُك بِيَدِك فإذا عَلِمَتْ بِالْقُدُومِ كان لها الْخِيَارُ في مَجْلِسِ عِلْمِهَا وَإِنْ كان مؤقتا بِأَنْ قال إذَا قَدِمَ فُلَانٌ فَأَمْرُك بِيَدِك يَوْمًا أو قال الْيَوْمُ الذي يَقْدَمُ فيه فُلَانٌ فإذا قَدِمَ فَلَهَا الْخِيَارُ في ذلك الْوَقْتِ كُلِّهِ إذَا عَلِمَتْ بِالْقُدُومِ غير أَنَّهُ إذَا ذَكَرَ الْيَوْمَ مُنَكَّرًا يَقَعُ على يَوْمٍ تَامٍّ بِأَنْ قال إذَا قَدِمَ فُلَانٌ فَأَمْرُك بِيَدِك يَوْمًا وَإِنْ عَرَّفَهُ يَقَعُ على بَقِيَّةِ الْيَوْمِ الذي يَقْدَمُ فيه وَلَا يَبْطُلُ بِالْقِيَامِ عن الْمَجْلِسِ وَهَلْ يَبْطُلُ بِاخْتِيَارِهَا زَوْجَهَا فَهُوَ على ما ذَكَرْنَا من الإختلاف وَلَيْسَ لها أَنْ تَخْتَارَ نَفْسَهَا في الْوَقْتِ كُلِّهِ إلَّا مَرَّةً وَاحِدَةً لِمَا بَيَّنَّا وَلَوْ لم تَعْلَمْ بِقُدُومِهِ حتى مَضَى الْوَقْتُ ثُمَّ عَلِمَتْ فَلَا خِيَارَ لها بهذا التَّفْوِيضِ أَبَدًا لِمَا مَرَّ وَأَمَّا الْمُضَافُ إلَى الْوَقْتِ بِأَنْ قال أَمْرُك بِيَدِك غَدًا أو رَأْسَ شَهْرِ كَذَا فَجَاءَ الْوَقْتُ صَارَ الْأَمْرُ بِيَدِهَا لِأَنَّ الطَّلَاقَ يَحْتَمِلُ الْإِضَافَةَ إلَى الْوَقْتِ فَكَذَا تَمْلِيكُهُ وكان على مَجْلِسِهَا من أَوَّلِ الْغَدِ وَرَأْسِ الشَّهْرِ وَأَوَّلِ الْغَدِ من حِينِ يَطْلُعُ الْفَجْرُ الثَّانِي وَرَأْسُ الشَّهْرِ لَيْلَةَ الْهِلَالِ وَيَوْمَهَا وَإِنْ قال أَمْرُكِ بِيَدِك إذَا هَلَّ الشَّهْرُ يَصِيرُ الْأَمْرُ بِيَدِهَا سَاعَةَ يَهُلُّ الْهِلَالُ وَيَتَقَيَّدُ بِالْمَجْلِسِ وَلَوْ قال أَمْرُكِ بِيَدِك الْيَوْمَ وَغَدًا أو قال أَمْرُك بِيَدِك هَذَيْنِ الْيَوْمَيْنِ فَلَهَا الْأَمْرُ في الْيَوْمَيْنِ تَخْتَارُ نَفْسَهَا في أَيِّهِمَا شَاءَتْ وَلَا يَبْطُلُ بِالْقِيَامِ عن الْمَجْلِسِ ما بَقِيَ شَيْءٌ من الْوَقْتَيْنِ وَهَلْ يَبْطُلُ بِاخْتِيَارِهَا زَوْجَهَا فَهُوَ على ما مَرَّ من الإختلاف وَلَوْ قال لها أَمْرُك بِيَدِك الْيَوْمَ وَبَعْدَ غَدٍ فَاخْتَارَتْ زَوْجَهَا الْيَوْمَ فَلَهَا أَنْ تَخْتَارَ نَفْسَهَا بَعْدَ غَدٍ وَكَذَلِكَ إذَا رَدَّتْ الْأَمْرَ في يَوْمِهَا بَطَلَ أَمْرُ ذلك الْيَوْمِ وكان الْأَمْرُ بِيَدِهَا بَعْدَ غَدٍ حتى كان لها أَنْ تَخْتَارَ نَفْسَهَا بَعْدَ غَدٍ ذَكَرَ الْقُدُورِيُّ هذه الْمَسْأَلَةَ وَنَسَبَ الْقَوْلَ إلَى أبي حَنِيفَةَ وَأَبِي يُوسُفَ وَذَكَرَهَا في الْجَامِعِ الصَّغِيرِ ولم يذكر الِاخْتِلَافَ وَالْوَجْهُ أَنَّهُ جَعَلَ الْأَمْرَ بِيَدِهَا في وَقْتَيْنِ وَجَعَلَ بَيْنَهُمَا وَقْتًا لَا خِيَارَ لها فيه فَصَارَ كُلُّ وَاحِدٍ من الْوَقْتَيْنِ شيئا مُنْفصلا عن صَاحِبِهِ مُسْتَقِلًّا بِنَفْسِهِ في الْأَمْرِ مُفْرَدًا بِهِ فَيَتَعَدَّدُ التَّفْوِيضُ مَعْنًى كَأَنَّهُ قال أَمْرُك بِيَدِك الْيَوْمَ وَأَمْرُك بِيَدِك بَعْدَ غَدٍ فَرَدُّ الْأَمْرِ في أَحَدِهِمَا لَا يَكُونُ رَدًّا في الْآخَرِ بِخِلَافِ قَوْلِهِ امرك بِيَدِك الْيَوْمَ أو الشَّهْرَ أو السَّنَةَ أو الْيَوْمَ أو غَدًا أو هَذَيْنِ الْيَوْمَيْنِ على قَوْلِ من يقول يَبْطُلُ الْأَمْرُ لِأَنَّ هُنَاكَ الزَّمَانَ زمان وَاحِدٌ لَا يَتَخَلَّلُهُ ما لَا خِيَارَ لها فيه فَكَانَ التَّفْوِيضُ وَاحِدًا فَرَدُّ الْأَمْرِ فيه يُبْطِلُهُ. وَلَوْ قال أَمْرُك بِيَدِك الْيَوْمَ وَأَمْرُك بِيَدِك غَدًا فَهُمَا أَمْرَانِ حتى لو اخْتَارَتْ زَوْجَهَا الْيَوْمَ أو رَدَّتْ الْأَمْرَ فَهُوَ على خِيَارِهَا غَدًا لِأَنَّهُ لَمَّا كَرَّرَ اللَّفْظَ فَقَدْ تَعَدَّدَ التَّفْوِيضُ فَرَدُّ أَحَدِهِمَا لَا يَكُونُ رَدًّا لِلْآخَرِ وَلَوْ اخْتَارَتْ نَفْسَهَا في الْيَوْمِ فَطَلُقَتْ ثُمَّ تَزَوَّجَهَا قبل مَجِيءِ الْغَدِ فَأَرَادَتْ أَنْ تَخْتَارَ فَلَهَا ذلك وَتَطْلُقُ أُخْرَى إذَا اخْتَارَتْ نَفْسَهَا لِأَنَّهُ مَلَّكَهَا بِكُلِّ واحد [واحدة] من التَّفْوِيضَيْنِ طَلَاقًا فَالْإِيقَاعُ بِأَحَدِهِمَا لَا يَمْنَعُ من الْإِيقَاعِ بِالْآخَرِ وَلَوْ قال لها أَمْرُك بِيَدِك هذه السَّنَةَ فَاخْتَارَتْ نَفْسَهَا ثُمَّ تَزَوَّجَهَا لم يَكُنْ لها أَنْ تَخْتَارَ في بَقِيَّةِ السَّنَةِ في قَوْلِ أبي يُوسُفَ وقال أبو يُوسُفَ وَقِيَاسُ قَوْلِ أبي حَنِيفَةَ أَنْ يَلْزَمَهَا الطَّلَاقُ في الْخِيَارِ الثَّانِي وَلَسْت أَرْوِي هذا عنه وَلَكِنْ هذا قِيَاسُ قَوْلِهِ وَلَوْ كان تَرَكَ الْقِيَاسَ وَاسْتَحْسَنَ لَكَانَ مُسْتَقِيمًا وَلَوْ لم تَخْتَرْ نَفْسَهَا وَلَا زَوْجَهَا وَلَكِنَّ الزَّوْجَ طَلَّقَهَا وَاحِدَةً ولم يَكُنْ دخل بها ثُمَّ تَزَوَّجَهَا في تِلْكَ السَّنَةِ فَلَا خِيَارَ لها في بَقِيَّةِ السَّنَةِ في قَوْلِ أبي يُوسُفَ وَعِنْدَ أبي حَنِيفَةَ لها الْخِيَارُ وَجْهُ قَوْلِ أبي يُوسُفَ أَنَّ الزَّوْجَ تَصَرَّفَ فِيمَا فَوَّضَ إلَيْهَا فَيَخْرُجُ الْأَمْرُ من يَدِهَا كَالْمُوَكِّلِ إذَا بَاعَ ما وُكِّلَ بِبَيْعِهِ أَنَّهُ يَنْعَزِلُ الْوَكِيلُ وَلِأَبِي حَنِيفَةَ أَنَّ جَعْلَ الْأَمْرِ بِالْيَدِ فيه مَعْنَى التَّعْلِيقِ فَزَوَالُ الْمِلْكِ لَا يُبْطِلُهُ ما دَامَ طَلَاقُ الْمِلْكِ الْأَوَّلِ قَائِمًا كما في سَائِرِ التَّعْلِيقَاتِ وَقَوْلُهُ الزَّوْجُ تَصَرَّفَ فِيمَا فَوَّضَ إلَيْهَا ليس كَذَلِكَ لِأَنَّهُ يَمْلِكُ ثَلَاثَ تَطْلِيقَاتٍ ولم يُفَوِّضْ إلَيْهَا إلَّا وَاحِدَةً فَيَقْتَضِي خُرُوجَ الْمُفَوَّضِ من يَدِهِ لَا غَيْرُ كما إذَا وَكَّلَ إنْسَانًا يَبِيعُ ثَوْبَيْنِ له فَبَاعَ الْمُوَكَّلُ أَحَدَهُمَا لم تَبْطُلْ الْوَكَالَةُ لِمَا قُلْنَا كَذَا هذا وَأَمَّا بَيَانُ صِفَةِ الْحُكْمِ الثَّابِتِ بِالتَّفْوِيضِ فَمِنْ صِفَتِهِ أَنَّهُ غَيْرُ لَازِمٍ في حَقِّ الْمَرْأَةِ حتى تَمْلِكَ رَدَّهُ صَرِيحًا أو دَلَالَةً لِمَا ذَكَرْنَا إن جَعْلَ الْأَمْرِ بِيَدِهَا تَخْيِيرٌ لها بين أَنْ تَخْتَارَ نَفْسَهَا وَبَيْنَ أَنْ تَخْتَارَ زَوْجَهَا وَالتَّخْيِيرُ يُنَافِي اللُّزُومَ وَمِنْ صِفَتِهِ أَنَّهُ إذَا خَرَجَ الْأَمْرُ من يَدِهَا لَا يَعُودُ الْأَمْرُ إلَى يَدِهَا بِذَلِكَ الْجَعْلِ أَبَدًا وَلَيْسَ لها أَنْ تَخْتَارَ إلَّا مَرَّةً وَاحِدَةً لِأَنَّ قَوْلَهُ أَمْرُك بِيَدِك لَا يَقْتَضِي التَّكْرَارَ إلَّا إذن قُرِنَ بِهِ ما يَقْتَضِي التَّكْرَارَ بِأَنْ قال أَمْرُك بِيَدِك كُلَّمَا شِئْتِ فَيَصِيرُ الْأَمْرُ بِيَدِهَا في ذلك وَغَيْرِهِ. وَلَهَا إن تُطَلِّقَ نَفْسَهَا في كل مَجْلِسٍ تَطْلِيقَةً وَاحِدَةً حتى تَبِينَ بِثَلَاثٍ لِأَنَّ كَلِمَةَ كُلَّمَا تَقْتَضِي تَكْرَارَ الْأَفْعَالِ قال اللَّهُ تَعَالَى: {كُلَّمَا نَضِجَتْ جُلُودُهُمْ بَدَّلْنَاهُمْ جُلُودًا غَيْرَهَا}وقال: {كُلَّمَا أَوْقَدُوا نَارًا لِلْحَرْبِ أَطْفَأَهَا اللَّهُ}فيقتضي تَكْرَارُ التَّمْلِيكِ عِنْدَ تَكْرَارِ الْمَشِيئَةِ إلَّا أنها لَا تَمْلِكُ أَنْ تُطَلِّقَ نَفْسَهَا في كل مَجْلِسٍ إلَّا تَطْلِيقَةً وَاحِدَةً لِأَنَّهُ يَصِيرُ قَائِلًا لها في كل مَجْلِسٍ أَمْرُك بِيَدِك فإذا اختارات [اختارت] فَقَدْ انْتَهَى مُوجَبُ ذلك التَّمْلِيكِ ثُمَّ يَتَجَدَّدُ لها الْمِلْكُ بِتَمْلِيكٍ آخَرَ في مَجْلِسٍ آخَرَ عِنْدَ مَشِيئَةٍ أُخْرَى إلَى أَنْ يَسْتَوْفِيَ ثَلَاثَ تَطْلِيقَاتٍ فَإِنْ بَانَتْ بِثَلَاثِ تَطْلِيقَاتٍ ثُمَّ تَزَوَّجَتْ بِزَوْجٍ آخَرَ وَعَادَتْ إلَى الزَّوْجِ الْأَوَّلِ فَلَا خِيَارَ لها لِأَنَّهَا إنَّمَا تَمْلِكُ تَطْلِيقَ نَفْسِهَا بِتَمْلِيكِ الزَّوْجِ وَالزَّوْجُ إنَّمَا مَلَّكَهَا ما كان يَمْلِكُ بِنَفْسِهِ وهو إنَّمَا كان يَمْلِكُ بِنَفْسِهِ طَلَقَاتِ ذلك الْمِلْكِ الْقَائِمِ لَا طَلَقَاتِ مِلْكٍ لم يُوجَدْ فما لَا يَمْلِكُ بِنَفْسِهِ كَيْفَ يَمْلِكُهُ غَيْرُهُ وَإِنْ بَانَتْ بِوَاحِدَةٍ أو اثْنَتَيْنِ ثُمَّ تَزَوَّجَتْ بِزَوْجٍ آخَرَ ثُمَّ عَادَتْ فَلَهَا أَنْ تَشَاءَ الطَّلَاقَ مَرَّةً بَعْدَ أُخْرَى حتى تَسْتَوْفِيَ الثَّلَاثَ في قَوْلِ أبي حَنِيفَةَ وَأَبِي يُوسُفَ خِلَافًا لِمُحَمَّدٍ وهو قَوْلُ الشَّافِعِيِّ بِنَاءً على أَنَّ الزَّوْجَ الثَّانِيَ يَهْدِمُ ما دُونَ الثَّلَاثِ من التَّطْلِيقَاتِ وقد ذَكَرْنَا الْمَسْأَلَةَ فِيمَا تَقَدَّمَ بِخِلَافِ ما إذَا قال لها أَمْرُك بِيَدِك إذَا شِئْتِ أو إذَا ما شِئْتِ أو مَتَى شِئْتِ أو مَتَى ما شِئْت أَنَّ لها الْخِيَارَ في الْمَجْلِسِ أو غَيْرِهِ لَكِنَّهَا لَا تَمْلِكُ أَنْ تَخْتَارَ إلَّا مَرَّةً وَاحِدَةً فإذا اخْتَارَتْ مَرَّةً لَا يَتَكَرَّرُ لها الْخِيَارُ في ذلك لِأَنَّ إذَا وَمَتَى لَا تُفِيدُ التَّكْرَارَ وَإِنَّمَا تُفِيدُ مُطْلَقَ الْوَقْتِ كَأَنَّهُ قال لها اخْتَارِي في أَيِّ وَقْتٍ شِئْت فَكَانَ لها الْخِيَارُ في الْمَجْلِسِ وَغَيْرِهِ لَكِنْ مَرَّةً وَاحِدَةً فإذا اخْتَارَتْ مَرَّةً وَاحِدَةً انْتَهَى مُوجِبُ التَّفْوِيضِ بِخِلَافِ الْفصل الْأَوَّلِ لِأَنَّ كُلَّمَا يَقْتَضِي تَكْرَارَ الْأَفْعَالِ فَيَتَكَرَّرُ التَّفْوِيضُ عِنْدَ تَكْرَارِ الْمَشِيئَةِ وَاَللَّهُ تعالى أَعْلَمُ. وَأَمَّا بَيَانُ ما يَصْلُحُ جَوَابَ جَعْلِ الْأَمْرِ بِالْيَدِ من الْأَلْفَاظِ وما لَا يَصْلُحُ وَبَيَانُ حُكْمِهِ إذَا وُجِدَ فَالْأَصْلُ فيه أَنَّ كُلَّ ما يَصْلُحُ من الْأَلْفَاظِ طَلَاقًا من الزَّوْجِ يَصْلُحُ جَوَابًا من الْمَرْأَةِ وما لَا فَلَا إلَّا في لَفْظِ الِاخْتِيَارِ خَاصَّةً فإنه لَا يَصْلُحُ طَلَاقًا من الزَّوْجِ وَيَصْلُحُ جَوَابًا من الْمَرْأَةِ في الْجُمْلَةِ بِخِلَافِ الْأَصْلِ لِأَنَّ التَّفْوِيضَ من الزَّوْجِ تَمْلِيكُ الطَّلَاقِ منها فما يَمْلِكُهُ بِنَفْسِهِ يَمْلِكُ تَمْلِيكَهُ من غَيْرِهِ وما لَا فَلَا هو الْأَصْلُ إذَا عُرِفَ هذا فَنَقُولُ إذَا قالت طَلَّقْتُ نَفْسِي أو أَبَنْتُ نَفْسِي أو حَرَّمْتُ نَفْسِي يَكُونُ جَوَابًا لِأَنَّ الزَّوْجَ لو أتى بِهَذِهِ الْأَلْفَاظِ كان طَلَاقًا وَكَذَا إذَا قالت أنا مِنْك بَائِنٌ أو أنا عَلَيْك حَرَامٌ لِأَنَّ الزَّوْجَ لو قال لها أَنْتِ مِنِّي بَائِنٌ أو أَنْتِ عَلَيَّ حَرَامٌ كان طَلَاقًا وَكَذَا إذَا قالت لِزَوْجِهَا أنت مِنِّي بَائِنٌ أو أنت عَلَيَّ حَرَامٌ لِأَنَّ الزَّوْجَ لو قال لها ذلك كان طَلَاقًا. وَلَوْ قالت أنا بَائِنٌ ولم تَقُلْ مِنْكَ أو قالت أنا حَرَامٌ ولم تَقُلْ عَلَيْكَ فَهُوَ جَوَابٌ لِأَنَّ الزَّوْجَ لو قال لها أَنْتِ بَائِنٌ أو أَنْتِ حَرَامٌ ولم يَقُلْ مِنِّي وَعَلَيَّ كان طَلَاقًا وَلَوْ قالت لِزَوْجِهَا أنت بَائِنٌ ولم تَقُلْ مِنِّي أو قالت لِزَوْجِهَا أنت حَرَامٌ ولم تَقُلْ عَلَيَّ فَهُوَ بَاطِلٌ لِأَنَّ الزَّوْجَ لو قال لها أنا بَائِنٌ أو أنا حَرَامٌ لم يَكُنْ طَلَاقًا وَلَوْ قالت أنا مِنْكَ طَالِقٌ فَهُوَ جَوَابٌ لِأَنَّهُ لو قال لها أَنْتِ طَالِقٌ مِنِّي كان طَلَاقًا وَكَذَا لو قالت لِزَوْجِهَا أنا طَالِقٌ ولم تَقُلْ مِنْكَ لِأَنَّ الزَّوْجَ لو قال أَنْتِ طَالِقٌ ولم يَقُلْ مِنِّي كان طَلَاقًا وَلَوْ قالت لِزَوْجِهَا أنت مِنِّي طَالِقٌ لم يَكُنْ جَوَابًا لِأَنَّ الزَّوْجَ لو قال لها أنا مِنْك طَالِقٌ لم يَكُنْ طَلَاقًا عِنْدَنَا خِلَافًا لِلشَّافِعِيِّ وَلَوْ قالت اخْتَرْتُ نَفْسِي كان جَوَابًا وَإِنْ لم يَكُنْ هذا اللَّفْظُ من الزَّوْجِ طَلَاقًا وإنه حُكْمٌ ثَبَتَ شَرْعًا بِخِلَافِ الْقِيَاسِ بِالنَّصِّ وَإِجْمَاعِ الصَّحَابَةِ رضي اللَّهُ عَنْهُمْ على ما نَذْكُرُ إن شاء الله تعالى. وَأَمَّا الْوَاقِعُ بِهَذِهِ الْأَلْفَاظِ التي تَصْلُحُ جَوَابًا فَطَلَاقٌ وَاحِدٌ بَائِنٌ عِنْدَنَا إنْ كان التَّفْوِيضُ مُطْلَقًا عن قَرِينَةِ الطَّلَاقِ بِأَنْ قال لها أَمْرُك بِيَدِك ولم يَنْوِ الثَّلَاثَ أَمَّا وُقُوعُ الطَّلْقَةِ الْوَاحِدَةِ فَلِأَنَّهُ ليس في التَّفْوِيضِ ما ينبيء عن الْعَدَدِ وَأَمَّا كَوْنُهَا بَائِنَةً فَلِأَنَّ هذه الْأَلْفَاظَ جَوَابُ الْكِنَايَةِ وَالْكِنَايَاتُ على أَصْلِنَا مبنيات [منبيات] وَلِأَنَّ قَوْلَهُ أَمْرُك بِيَدِك جَعَلَ أمرها [أمر] نَفْسِهَا بِيَدِهَا فَتَصِيرُ عِنْدَ اخْتِيَارِهَا نَفْسَهَا مَالِكَةَ نَفْسِهَا وَإِنَّمَا تَصِيرُ مَالِكَةَ نَفْسِهَا بِالْبَائِنِ لَا بالرجعى وَإِنْ قَرَنَ بِهِ ذِكْرَ الطَّلَاقِ بِأَنْ قال أَمْرُكِ بِيَدِكِ في تَطْلِيقَةٍ فَاخْتَارَتْ نَفْسَهَا فَهِيَ وَاحِدَةٌ يَمْلِكُ الرَّجْعَةَ لِأَنَّهُ فَوَّضَ إلَيْهَا الصَّرِيحَ حَيْثُ نَصَّ عليه وَبِهِ تَبَيَّنَ أَنَّهُ ما مَلَّكَهَا نَفْسَهَا وَإِنَّمَا مَلَّكَهَا التَّطْلِيقَةَ وَخَيَّرَهَا بين الْفِعْلِ وَالتَّرْكِ عَرَفْنَا ذلك بِنَصِّ كَلَامِهِ بِخِلَافِ ما إذَا أَطْلَقَ لِأَنَّهُ لَمَّا أَطْلَقَ فَقَدْ مَلَّكَهَا نَفْسَهَا وَلَا تَمْلِكُ نَفْسَهَا إلَّا بِالْبَائِنِ وَلَوْ قال أَمْرُك بِيَدِك وَنَوَى الثَّلَاثَ فَطَلَّقَتْ نَفْسَهَا ثَلَاثًا كان ثَلَاثًا لِأَنَّهُ جَعَلَ أَمْرَهَا بِيَدِهَا مُطْلَقًا فَيُحْتَمَلُ الْوَاحِدُ وَيُحْتَمَلُ الثَّلَاثُ فإذا نَوَى الثَّلَاثَ فَقَدْ نَوَى ما يَحْتَمِلُهُ مُطْلَقُ الْأَمْرِ فَصَحَّتْ نِيَّتُهُ وَإِنْ نَوَى اثْنَتَيْنِ فَهِيَ وَاحِدَةٌ عِنْدَ أَصْحَابِنَا الثَّلَاثَةِ خِلَافًا لِزُفَرَ وقد ذَكَرْنَا الْمَسْأَلَةَ فِيمَا تَقَدَّمَ. وَكَذَا إذَا قالت طَلَّقْت نَفْسِي أو اخْتَرْتُ نَفْسِي ولم تَذْكُرْ الثَّلَاثَ فَهِيَ ثَلَاثٌ لِأَنَّهُ جَوَابُ تَفْوِيضِ الثَّلَاثِ فَيَكُونُ ثَلَاثًا وَكَذَا إذَا قالت أَبَنْتُ نَفْسِي أو حَرَّمْتُ نَفْسِي وَغَيْرَ ذلك من الْأَلْفَاظِ التي تَصْلُحُ جَوَابًا وَلَوْ قالت طَلَّقْتُ نَفْسِي وَاحِدَةً أو اخْتَرْتُ نَفْسِي بِتَطْلِيقَةٍ فَهِيَ واحدة بَائِنَةٌ لِأَنَّهُ لَمَّا نَوَى ثَلَاثًا فَقَدْ فَوَّضَ إلَيْهَا الثَّلَاثَ وَهِيَ أَتَتْ بِالْوَاحِدَةِ فَيَقَعُ وَاحِدَةٌ كما لو قال لها طَلِّقِي نَفْسَك ثَلَاثًا فَطَلَّقَتْ نَفْسَهَا وَاحِدَةً فَتَكُونُ بَائِنَةً لِأَنَّهُ مَلَّكَهَا نَفْسَهَا وَلَا تَمْلِكُ نَفْسَهَا إلَّا بِالْبَائِنِ وَلَوْ قالت اخْتَرْتُ نَفْسِي بِوَاحِدَةٍ فَهُوَ ثَلَاثٌ فَرْقًا بَيْنَهُ وَبَيْنَ قَوْلِهَا طَلَّقْتُ نَفْسِي وَاحِدَةً وَجْهُ الْفَرْقِ أَنَّ مَعْنَى قَوْلِهَا بِوَاحِدَةٍ أَيْ بِمَرَّةٍ وَاحِدَةٍ وَهِيَ عِبَارَةٌ عن تَوَحُّدِ فِعْلِ الِاخْتِيَارِ على وَجْهٍ لَا يُحْتَاجُ بَعْدَهُ إلَى اخْتِيَارٍ آخَرَ وَانْقِطَاعُ الْعُلْقَةِ بَيْنَهُمَا بِالْكُلِّيَّةِ بِحَيْثُ لَا يَبْقَى بَيْنَهُمَا أَمْرٌ بَعْدَ ذلك وَذَلِكَ إنَّمَا يَكُونُ بِالثَّلَاثِ بِخِلَافِ قَوْلِهَا طَلَّقْتُ نَفْسِي وَاحِدَةً لِأَنَّهَا جَعَلَتْ التَّوَحُّدَ هُنَاكَ صِفَةَ الْمُخْتَارِ وهو الطَّلَاقُ لَا صِفَةَ فِعْلِ الِاخْتِيَارِ فَهُوَ الْفَرْقُ بين الْفصليْنِ وَالله أعلم.
|